للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وليس في استدلاله بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} دليل على ما ذهب إليه من الإعادة من العدم؛ لأن الله تعالى إنما خلق الإنسان مما ذكر في قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: ٢].

بل الإنسان الأول؛ وهو آدم - عليه السلام -، قد ذكر الباري تعالى لنا قصة خلقه في عدد من مواضع كتابه العزيز، وكيف أنه تعالى خلقه من: {صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}

يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والإنسان إذا مات وصار ترابًا؛ فنى وعدم، وكذلك سائر ما على الأرض، كما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: ٢٦] ثم يعيده من التراب كما خلقه ابتداءً من التراب، ويخلقه خلقًا جديدًا. ولكن للنشأة الثانية أحكامًا وصفات ليست للأولى، والمشهود المعلوم للناس إنما هو إحداثه لما يحدثه من غيره، لا إحداثًا من غير مادة.

ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: ٩]، ولم يقل خلقتك لا من شيء، وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: ٤٥]، ولم يقل خلق كل دابة لا من شيء، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: ٣٠]، وهذا هو القدرة التي تبهر العقول، وهو أن يقلب حقائق الموجودات، فيحيل الأول ويفنيه ويلاشيه، ويحدث شيئًا آخر، كما قال تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: ٩٥] " (١).

وقد أطال الإمام ابن القيم - رحمه الله - النفس في دحض هذا المعتقد، الذي أثار افتراءات الفلاسفة المنكرين للبعث الجسدى (٢)، يقول: "فإن القرآن والسنة إنما دلا على تغيير العالم وتحويله وتبديله، لا جعله عدمًا محضًا وإعدامه بالكلية، فدل


(١) النبوات: ١٠٨ - ١٠٩.
(٢) انظر: تهافت الفلاسفة للغزالى: ٣٠٢.

<<  <   >  >>