للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مراتب القدر:

أما عن مراتب القدر فمن الملاحظ عند تتبعى لآرائه في هذا الباب أنه لم يتعمد جمعها ولا الترتيب فيها؛ إذ كل ما نقلته عنه إنما هي أقوال متناثرة جمعتها ورتبتها وفق المنهج المتبع عند السلف الكرام، وهذا ما يدعونى للوقوف عليها مرة أخرى ومن ثم تدارك ما فاته منها، ومناقشته في بعض القضايا المتعلقة بها:

أولًا: مرتبة العلم، فالله تعالى قد وسع علمه كل شيء، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: ٥٩].

وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أولاد المشركين، فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) (١).

ومن ذلك ما ورد عن علي - رضي الله عنه -، حيث قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم جالسًا وفي يده عود ينكث به، فرفع رأسه فقال: (ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار)، قالوا: يا رسول الله؛ فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: (لا، اعملوا، فكل ميسر لما خلق له)، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (٢).

فإنه مما لا شك أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان بالقدر، حتى كان المعول عليه في إبطال حجج الخصم من القدرية النافين.

ولا ريب في أن الصاوي كان موافقًا للحق حين أقر بأن العلم التام المحيط بكل شيء لا يعلمه إلا الله تعالى، وأن من اعتقد مماثلة علم النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلم الله تعالى فقد كفر، ولكن هذا الاعتقاد ليس بكافٍ في إخراجه من دائرة الغلو الذي أوقعه فيه ميله إلى التصوف؛ إذ الآية صريحة في أن هذه الأمور مما اختص الله تعالى بعلمها


(١) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب القدر - باب الله أعلم بما كانوا عاملين، رقم الحديث:
(٢) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب القدر - باب كيفية خلق الآدمى: (١٦/ ١٩٧).

<<  <   >  >>