ومما سبق يظهر وجه الاستحالة في نظرية الكسب؛ لأنها محاولة في التوسط بين الاختيار والجبر، والحقيقة أنه لا توسط بينهما، ولا بد من القول بأحدهما في نهاية المطاف، وهذه هي حقيقة الكسب؛ تنظير للجبر بقالب الاختيار؛ فإن نزع التأثير من فعل العبد تمامًا وإرجاع حصول الفعل عند قدرته إلى مجرد الاقتران ينفى تمامًا صورة الاختيار عن فعل العبد، ويقضى بالجبر الذي كثيرًا ما صرح به الصاوي في حواشيه، ومن العجب أن يحكم الصاوي على من قال بالجبر بالكفر المخرج من الملة، ثم يعلن بصراحة أن العبد مجبور في قالب مختار، فأى مفهوم للجبر إن لم يكن هذا هو المراد منه!
ثم إن في جعله من العباد مظاهر للتصريف الإلهى، وفى نسبته أفعال العباد له تعالى ليس فقط على جهة الخلق كما هو الصحيح، بل حتى على جهة الفعل حيث يصف الله تعالى بأنه فاعل لأفعال العباد، وفي تقسيمه أيضًا للحقيقة والشريعة وذكر أقوال كبار مذهب التصوف في حكاية العذر عن أهل الكفر والقبائح، مناقضة صريحة لمهاجمته مذهب الجبرية، والحكم عليه بما حاول الفرار منه، وصريح كلام الشهرستانى وهو أحد كبار منظرى المذهب الأشعري في نسبة الجبر لمن نفى التأثير تمامًا عن فعل العبد بالجبر، ومع ذلك فإن العدل يقضى ببيان وجه مخالفة الأشعرية لمذهب جهم؛ وذلك أن الصاوي متبعًا رأى الأشعري يفرق - كما هو ظاهر من كلامه - بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية، كما أنه ينسب للعبد قدرة حادثة وهذا ما لا يقول به جهم وأتباعه (١).
وعليه فمناقشته في هذه القضية ترجع إلى أمرين:
أولًا: إثبات أن لقدرة العبد الحادثة أثرًا في وجود الفعل على جهة السببية لا الإحداث والخلق.
ثانيًا: أن الله عز وجل لا يوصف بأنه فاعل لأفعال العباد؛ بل خالق لها.