ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة؛ فيزعمون أن الأمر والنهى لازم لمن شهد لنفسه فعلًا، وأثبت له صنعًا، أما من شهد أن أفعاله مخلوقة، أو أنه مجبور على ذلك، وأن الله متصرف فيه كما تحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهى والوعد والوعيد. . ." إلى أن قال - رحمه الله -: "وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله، ومعاداة له، وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه" (١).
ومن خلال النص السابق يظهر أن أقوى دليل في إبطال الاحتجاج بالقدر هو ما لا يمكن دفعه من إرادة العبد وقدرته على الاختيار، وهذا ما يقتضيه التكليف الشرعي، فالله تعالى قد كلف عباده ما في وسعهم وتحت تصرفهم، وفى ذلك مقولة أهل العلم: إذا سلب ما وهب؛ أسقط ما أوجب، وعليه فلا تناقض بين الشرع والقدر حتى يحتج هؤلاء على معارضة الشرع بالقدر، فأساس ما يبطل به الاحتجاج بالقدر على المعصية إثبات التكليف، وقد علم أن المكلف لا تقام عليه الحجة بالتكليف حتى تقام عليه الحجة من إرسال الرسل وإبلاغه بذلك، وتحقق الشروط فيه من البلوغ والعقل، وانتفاء الموانع؛ فأى عذر بعد هذا للمحتج بالقدر على معصية الله تعالى!
ومن كل ما سبق؛ نرجع إلى التأكيد على الحقيقة السابقة الذكر، من أن أساس الضلال في كل المسائل المتعلقة بالقدر، ومن جملتها مسألة الاحتجاج به، هو اعتقاد التناقض بين الشرع والقدر، وكانت هذه الألفاظ كلفظ الحقيقة والشريعة والظاهر والباطن من المتصوفة تعبيرًا ناطقًا عن هذا التناقض، الذي لا أساس له صحيح من عقل ولا نقل.