سوغ لغلاتهم التشدق بمذهب الجبر دون تورع ووجل، ويظهر من خلال ما ذكرت من كلام الصاوي في نقله لعباراتهم شناعة ما توصلوا إليه نتيجة لذلك: فنسبة القبيح إلى الله تعالى واستحسانه لذلك، والجهر بعذر الخلق طائعهم وفاجرهم؛ لأنهم مظاهر لأفعال الله، كل هذا كان محصلة تلك الأهواء الفاسدة هي نفى الفعل عن العبد حقيقة.
ومهما تستروا بستار الكسب؛ فإن ألفاظهم تدل صراحة على اعتناق الجبر، والمتأمل لكلام الرازي يجد صراحة الإقرار بهذا، وعليه فلا سبيل بين الجبر والاختيار، فمن أثبت الاختيار بحال لا يمكن أن يقر بمذهب الجبر إطلاقًا والعكس صحيح، ومن رام خلافه وقع في التناقض؛ كما هو واضح في موقف الصاوي من التشديد في الحكم على الجبرية، ثم حكاية كلام المتصوفة الصريح في اعتناق مذهب الجبر.
وحقيقة ما تكلم فيه هؤلاء المتصوفة من عذر الخلق بفعل الرب، والتفريق بين الشريعة والحقيقة؛ هو الاحتجاج بالقدر على معصيته تعالى، وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله - ضلالهم، فقال: وهولاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية وهى ربوبيته تعالى لكل شيء، ويجعلون ذلك مانعًا من اتباع أمره الدينى الشرعي على مراتب في الضلال.
فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقًا عامًا؛ فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة، وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام: ١٤٨].
وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضًا، بل كل من احتج بالقدر فإنه متناقض، فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمى على ما فعل إلى أن قال: "فيقال له إن كان القدر حجة؛ فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكون حجة بطل أصل قولك حجة.