للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من أيدي العابثين، فبينوا فساد أقوال أولئك المبتدعة في تحميل النصوص ما لم تحمله من تلك الأوهام، وكانت لهم شروحات وتفاسير جليلة، عمدوا فيها إلى تمييز ما قيل في معناها، ووضعوا لذلك قواعد في فهمها؛ تبعًا لاستقراء النصوص، وفهم أقوال الصحابة، وإعمالًا للغة الدين: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: ٥٥].

وغالب ما اعتمده الصوفية من النصوص لتقرير مقاماتهم المتشابه منها، حيث قاموا بالتلبيس على العامة من أتباعهم، وهذا هو الغالب فيهم، وإن كانت قد سبقت الإشارة إلى أنواع من التأويل الصوفي في تأصيل بعض مبادئ التصوف كالعهد والبيعة والطريقة، فسأكتفي هنا بعرض نماذج من تأويلاتهم الباطلة فيما يتعلق بالفناء والبقاء؛ الموضوع الذي دار حوله البحث في هذا الفصل.

وقد تتفق بعض تأويلاتهم مع المعنى المراد؛ وذلك عند حملها على الفناء، أو البقاء المشروع كما مر سابقًا، أما عند توجيهها إلى تقرير البدع؛ فهنا يكون ردها مما يستلزمه حقيقة النصح لدين الله تعالى.

ومما يستند إليه الصوفية في تقرير الفناء باعتباره سبيلًا لتحقيق التوحيد قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، ومرادهم بهذا أنه لا يصل السالك إلى تحقيق التوحيد إلا إذا انتفت عنه الأغيار؛ فيشهد التوحيد بهذه الصورة، حيث لا تكون شهادته نطقًا باللسان، وإنما عن تجربة يشاهد ربه فيها بالذوق والوجدان، يقول أبو سعيد الخراز: "أول مقام لمن وجد علم التوحيد وحقق بذلك فناء ذكر الأشياء عن قلبه وانفراده بالله عز وجل" (١). وقد يغرق بعضهم فيرى أنه: "ليس في التوحيد حلق (٢) وما وحد الله غير الله، والتوحيد للحق من الخلق طفيلى" (٣).


(١) اللمع: ٥٢.
(٢) أراد به التحليق بالإصبع للدلالة على التوحيد، والله أعلم.
(٣) اللمع: ٥٢.

<<  <   >  >>