فمن رزقه الله صدق يقين وتوكل، وعلم من الله أنه يخرق له العوائد، ولا يحوجه إلى الأسباب المعتادة في طلب الرزق ونحوه، جاز له ترك الأسباب، ولم ينكر عليه ذلك، وحديث عمر هذا الذي نتكلم عليه - لَو أَنَّكُم تَوكَّلُون على اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَما يَرزُقُ الطَّيرَ، تَغدُو خِماصًا، وتَروحُ بِطانًا - يدلّ على ذلك، ويدلُّ على أنَّ النَّاس إنَّما يُؤتون منْ قلَّة تحقيق التوكُّل، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، فلذلك يُتعبون أنفسَهم في الأسباب، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد، ولا يأتيهم إلاّ ما قُدِّر لهم، فلو حقَّقوا التوكلَ على الله بقلوبهم، لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سببٍ، كما يسوقُ إلى الطَّير أرزاقها بمجرَّدِ الغدوِّ والرواح، وهو نوعٌ من الطَّلب والسَّعي، لكنه سعيٌ يسيرٌ .....
ومن هذا الباب من قوي توكله على الله ووثوقه به، فدخل المفاوز بغير زاد، فإنه يجوز لمن هذه صفته دون من لم يبلغ هذه المنزلة، وله في ذلك أسوة بإبراهيم الخليل ﵇، حيث ترك هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع، وترك عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، فلما تبعته هاجر وقالت له: إلى من تدعنا؟ قال لها: إلى الله، قالت: رضيت بالله، وهذا كان يفعله بأمر الله ووحيه، فقد يقذف الله في قلوب بعض أوليائه من الإلهام الحقّ ما يعلمون أنه حقّ ويثقون به ..... وقد أجاز العلماء التوكل على الصدق ...... … قال ﵀: فلا يرخص في ترك السبب بالكلية إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية. جامع العلوم والحكم / ٥٦٨ - ٥٧١