قال ابن جرير: فودعته وكتبت بها العلم سنين أتقوت بها، وأشتري منها الورق، وأسافر وأعطي الأجرة، فلما كان بعد سنة ست وخمسين سألت عن الشيخ بمكة فقيل إنه قد مات بعد ذلك بشهور، ووجدت بناته ملوكًا تحت ملوك، وماتت الأختان وأمهن، وكنت أنزل على أزواجهن وأولادهن فأحدّثهم بذلك، فيستأنسون بي ويكرموني، ولقد حدثني محمد بن حيان البجلي في سنة تسعين ومائتين أنه لم يبق منهم أحد.
فبارك الله لهم فيما صاروا إليه ورحمة الله عليهم أجمعين. [المنتظم ١١/ ٢٩٠ - ٢٩٣].
• وقال خلاّدٌ الأرقَط: سمعتُ مشايخنا من أهل مكة يذكرون أن القَسّ (١)، وهو مولى لبني مخزوم، كان عند أهل مكة بمنزلة عَطاَء بن أبي رَباَح، وأنه مرّ يومًا بسَلاّمَةَ، وهي تُغَنِّي، فوقف يسمَع؛ فرآه مولاها فدنا منه فقال: هل لك في أن تدخُل وتستمع؟ فأبى، ولم يزل به فقال: أقعِدك في موضع لا تراها ولا تراك. ففعل، ثم غنت فأعجبته؛ فقال: هل لك في أن أُحَوِّلها إليك؟ فتأَبَّى. ثم أجاب، فلم يزلْ به حتى شُغِف بها وشُغِفت به، وعلم ذلك أهلُ مكة. فقالت له يومًا وقد خَلَوا: أنا والله أُحِبُّكَ؛ فقال: وأنا والله أُحِبُّكِ. قالت: فأنا أُحبّ أن أضَعَ فمي على فمكَ؛ قال: وأنا والله. قالت: وأنا والله أُحِبّ أن أضع صدري على صدرك؛ قال: وأنا والله. قالت: فما يمنعكَ؟ والله إن الموضعَ لخال! فأطرق ساعةً، ثم قال: إني سمعتُ الله يقول: ﴿الْأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٦٧]، وأنا والله أكره أن تكون خُلَّةُ ما بيني وبينكِ عداوةً يومَ القيامة. ونهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها.
وفيه قيل:
لقد فَتَنتْ رَيّا وسَلاّمةُ القَسَّا … ولم تتركا للقسِّ عقلًا ولا نفسَا
[عيون الأخبار ٤/ ٤١٧].
(١) قال في الحاشية: هو عبد الرحمن بن أبي عمار من بني جشم بن معاوية، وكان فقيهًا عابدًا من عبّاد مكة، وكان يسمى القسّ لعبادته.