فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى بِأَنْ يُسْرِعَ مَشْيَهُ مُقَارِبًا خُطَاهُ وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي) عَلَى هَيِّنَتِهِ لِلِاتِّبَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَسْتَوْعِبُ الْبَيْتَ بِالرَّمَلِ، رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا» ، وَلَوْ طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا حَرَّكَ الدَّابَّةَ وَرَمَلَ بِهِ الْحَامِلُ، وَلَوْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ لَا يَقْضِيهِ فِي الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ هَيْئَتَهَا السَّكِينَةُ فَلَا تُغَيَّرُ.
(وَيَخْتَصُّ الرَّمَلُ بِطَوَافٍ يَعْقُبُهُ سَعْيٌ وَفِي قَوْلٍ بِطَوَافِ الْقُدُومِ) لِأَنَّ مَا رَمَلَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لِلْقُدُومِ، وَسَعَى عَقِبَهُ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَيَرْمُلُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا لِإِجْزَاءِ طَوَافِهِ عَنْ الْقُدُومِ، وَكَانَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا حَاجًّا إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ، فَإِنْ دَخَلَهَا قَبْلَهُ وَلَمْ يُرِدْ السَّعْيَ عَقِبَ طَوَافِهِ لِلْقُدُومِ رَمَلَ فِيهِ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَالْحَاجُّ مِنْهَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِهِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَمَنْ أَرَادَ السَّعْيَ عَقِبَ طَوَافِهِ لِلْقُدُومِ رَمَلَ فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِذَا رَمَلَ فِيهِ وَسَعَى عَقِبَهُ لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إنْ لَمْ يُرِدْ السَّعْيَ عَقِبَهُ، وَكَذَا إنْ أَرَادَهُ فِي الْأَظْهَرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ مِنْهُ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ يَعْقُبُهُ سَعْيٌ أَيْ مَطْلُوبٌ أَوْ مَحْسُوبٌ، وَإِذَا طَافَ لِلْقُدُومِ وَسَعَى عَقِبَهُ وَلَمْ يَرْمُلْ فِيهِ لَا يَقْضِيهِ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فِي الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ وَلَوْ طَافَ وَرَمَلَ وَلَمْ يَسْعَ رَمَلَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِبَقَاءِ السَّعْيِ عَلَيْهِ. (وَلْيَقُلْ فِيهِ) أَيْ فِي الرَّمَلِ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا) قَالَ الرَّافِعِيُّ: رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَوْلُهُ: اجْعَلْهُ أَيْ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ الْعَمَلِ
ــ
[حاشية قليوبي]
فَفِي الْخَبَرِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ. وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الذِّكْرَ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ وَإِنْ طُلِبَ غَيْرُهُ لِخُصُوصِهِ لَا يُعَارِضُ أَفْضَلِيَّتَهُ فَتَأَمَّلْ.
تَنْبِيهٌ: يُنْدَبُ الْإِسْرَارُ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.
قَوْلُهُ: (وَأَنْ يَرْمُلَ) أَيْ الذَّكَرُ كَمَا سَيَأْتِي. وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ وَلَوْ قَصَدَ السَّعْيَ فَرَمَلَ ثُمَّ عَنَّ لَهُ تَرْكُهُ أَوْ عَكْسُهُ جَازَ، وَهَلْ يَرْمُلُ مَنْ أَطْلَقَ فَلَمْ يَقْصِدْ السَّعْيَ وَلَا عَدَمَهُ أَوْ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ يَفْعَلُهُ الْآنَ؟ فَرَاجِعْهُ.
وَيَنْبَغِي بِنَاؤُهُ عَلَى أَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي أَيِّهِمَا أَصَالَةً أَوْ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ وَسَيَأْتِي. قَوْلُهُ: (فِي الْأَشْوَاطِ) قَالَ شَيْخُنَا الرَّمْلِيُّ: الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَسْمِيَةُ الطَّوَافِ شَوْطًا وَدَوْرًا، وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ وَشَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ. قَوْلُهُ: (بِأَنْ يُسْرِعَ إلَخْ) قَالَ فِي الْمَنْهَجِ وَيُسَمَّى خَبَبًا. قَالَ شَيْخُنَا الرَّمْلِيُّ: وَمَنْ قَالَ إنَّ الرَّمَلَ دُونَ الْخَبَبِ فَقَدْ غَلِطَ بَلْ هُوَ مَشْيٌ لَا عَدْوَ فِيهِ، وَلَا وَثْبَ. وَحِكْمَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ بِأَصْحَابِهِ إلَى مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ قَدِمَ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَبَلَّغْنَهُمْ أَوَانَ اللَّهِ أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَيْهَا فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِالرَّمَلِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ قَالُوا لِبَعْضِهِمْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ كَذَا وَكَذَا، وَاَللَّهِ إنَّهُمْ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا» . وَفِي رِوَايَةٍ كَأَنَّهُمْ الْغِزْلَانُ. وَطَلَبَ مِنَّا ذَلِكَ لِنَتَذَكَّرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى إعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. قَوْلُهُ: (وَمَشَى أَرْبَعًا) وَهَذَا كَانَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ رُكُوبِهِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي طَوَافِ الرُّكْنِ. تَأَمَّلْ.
قَوْلُهُ: (لِأَنَّ مَا رَمَلَ فِيهِ إلَخْ) اُنْظُرْهُ مَعَ مَا مَرَّ أَنَّهُ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَلَيْسَ فِي عُمْرَةِ الْقُدُومِ. وَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَيَرْمُلُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا إلَخْ. قَوْلُهُ: (وَيَرْمُلُ فِي طَوَافِهِ) أَيْ الَّذِي بَعْدَ وُقُوفِهِ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ لَا الَّذِي عِنْدَ خُرُوجِهِ لِأَنَّهُ وَدَاعٌ. قَوْلُهُ: (السَّعْيُ عَقِبَ طَوَافِهِ لِلْقُدُومِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَالشَّمْسُ الْخَطِيبُ: وَهُوَ أَفْضَلُ. وَقَالَ شَيْخُنَا الرَّمْلِيُّ: تَأْخِيرُهُ لِمَا بَعْدَ الْإِفَاضَةِ أَفْضَلُ.
وَكَلَامُ الشَّارِحِ بَعْدَهُ يَدُلُّ لَهُ وَلَا يُعِيدُ الرَّمَلَ إذَا فَعَلَهُ وَإِنْ أَخَّرَ السَّعْيَ. قَوْلُهُ: (مَطْلُوبٌ أَوْ مَحْسُوبٌ) أَيْ سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهُ مَطْلُوبٌ أَوْ إنَّهُ مَحْسُوبٌ غَيْرُ مَطْلُوبٍ. فَقَوْلُهُ: غَيْرُ مَطْلُوبٍ أَيْ وَغَيْرُ مَحْسُوبٍ. وَأَشَارَ بِمَطْلُوبٍ إلَى مَا لَيْسَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَبِالْمَحْسُوبِ إلَيْهِ. وَكَذَا يُقَالُ إنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ فَيُسْتَغْنَى عَنْ مَحْسُوبٍ. قَوْلُهُ: (وَلْيَقُلْ إلَخْ) أَيْ بَدَلَ الذِّكْرِ الْمَطْلُوبِ فِيهِ مِمَّا مَرَّ أَوْ فِي
ــ
[حاشية عميرة]
عَلَى خَلْقِهِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَوْلُ الْمَتْنِ: (وَأَنْ يَرْمُلَ فِي الْأَشْوَاطِ إلَخْ) قِيلَ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِيعَابِهَا.
قَوْلُهُ: (وَيَسْتَوْعِبُ) نَبَّهَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْكِتَابِ قَدْ لَا تُفِيدُهُ. قَوْلُهُ: (وَمَشَى أَرْبَعًا) هَذَا كَانَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ فَلَا يُنَافِي مَا سَلَفَ فِي رُكُوبِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي طَوَافِ الرُّكْنِ. قَوْلُهُ: (كَانَ لِلْقُدُومِ وَسَعَى عَقِبَهُ) أَيْ فَالْأَوَّلُ نَظَرَ إلَى الثَّانِي لِانْتِهَائِهِ إلَى تَوَاصُلِ الْحَرَكَاتِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَالثَّانِي نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْعَهْدِ بِالْبَيْتِ فَيَلِيقُ بِهِ النَّشَاطُ وَالِاهْتِزَازُ، وَقَوْلُهُ لِلْقُدُومِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِ الْمَتْنِ، وَفِي قَوْلِهِ وَقَوْل وَسَعَى عَقِبَهُ يَرْجِعُ لِقَوْلِ الْمَتْنِ وَيَخْتَصُّ. .
قَوْلُ الْمَتْنِ: (مَبْرُورًا) أَيْ لَا يُخَالِطُهُ مَعْصِيَةٌ مِنْ الْبِرِّ، وَهُوَ الطَّاعَةُ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُتَقَبَّلُ وَقَوْلُهُ ذَنْبًا مَغْفُورًا أَيْ اجْعَلْ ذَنْبِي مَغْفُورًا، وَالسَّعْيُ هُوَ الْعَمَلُ وَالْمَشْكُورُ هُوَ الْمُتَقَبَّلُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُشْكَرُ عَلَيْهِ.
قَوْلُ