وناصبه إما «أنزلناه» وإما «منذرين» وإما «يفرق» أي أو مصدر من معنى «يفرق» أي فرقا كائنا من عندنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) أي أنّا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنا كنا مرسلين الأنبياء رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول له أي لأجل إفاضة رحمتنا على العباد، والمعنى: إنا أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم، أو بدل من «أمرا» فيجيء في «رحمة» ما تقدم من الأوجه في «أمرا» . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) ، فإن المحتاجين للرحمة إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم وإما أن لا يذكروها، فإن ذكروها فإنه تعالى سميع لكلامهم، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بحاجاتهم، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالجر بدل من ربك أو بيان عليه، والباقون بالرفع عطف بيان على قوله:
«السميع العليم» ، أو خبر آخر، أو استئناف على إضمار مبتدأ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) أي إن كنتم تريدون اليقين فاعرفوا أن الأمر كما قلنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وهذا تنبيه على تمام دلائل التوحيد رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بالرفع بدل، أو بيان، أو النعت ل «ربّ» السموات» .
وقرأ ابن محيصن، وابن أبي اسحق، وأبو حيوة، والحسن بالجر على البدل، أو البيان، أو النعت ل «رب» السموات» وقرأ الأنطاكي بالنصب على المدح، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ أي ليسوا على يقين في إقرارهم بأن للسموات والأرض ربا وخالقا هو الله تعالى وإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم فهم في شك يَلْعَبُونَ (٩) في دينهم بما يظهر لهم من غير حجة، فَارْتَقِبْ أي انتظر يا أكرم الرسل عذابهم يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) وهو ما أصابهم من شدة الجوع، فإنهم لظلمة أبصارهم كأنهم يرون دخانا بين السماء والأرض، فالمراد بالدخان هنا- ما قاله ابن عباس في بعض الروايات، وابن مسعود، ومقاتل، ومجاهد واختاره الفراء، والزجاج- هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما كذبه قومه بمكة دعا عليهم،
فقال:«اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف»«١» فارتفع المطر، وأجدبت الأرض، وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام، والكلاب، والجيف فكان الرجل يرى بينه وبين السماء كالدخان لما به الجوع.
ونقل عن علي، وابن عباس، وابن عمرو، وأبي هريرة، وزيد بن علي، والحسن أن المراد بالدخان هنا دخان يظهر في العالم في آخر الزمان يكون علامة على قرب الساعة يملأ ما بين المشرق والمغرب وما بين السماء والأرض. يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه
(١) رواه أحمد في (م ٢/ ص ٤٧٠) ، وابن حجر في فتح الباري (٢: ٤٩٢) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢: ٧١) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (١: ٩٦) .