ليالي، وإن شئتم أياما لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوّفة فإن بعضها يسلك ليلا لئلا يعلم العدو بسيرها، وبعضها يسلك نهارا لئلا يقصدهم العدو إذا كان غير مجاهر بالقصد والعداوة.
قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين، ولا جائعين، ولا ظامئين كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أماكن لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه، فَقالُوا على وجه الدعاء: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أي باعد بين المنازل التي تنزل فيها بأن يكون بين كل واحد والآخر مسافة بعيدة، أي سألوا أن يجعل الله تعالى بينهم وبين الشام قفارا ليركبوا فيها الرواحل، ويتزودوا الأزواد، ويتطاولوا فيها على الفقراء، فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة، وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعد» بتشديد العين من غير ألف. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث عدوا النعمة نقمة والإحسان إساءة، وتركوا شكر تلك النعم فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ بمن بعدهم، فيتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم، ومعتبرين بعاقبتهم، ويضربون مثلا فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ- والأيدي: بمعنى الأنفس أو الأولاد- وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقناهم كل تفريق، أي فلما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، فغسان لحقوا بالشام والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة، والأوس والخزرج بيثرب. إِنَّ فِي ذلِكَ أي التمزيق والإهلاك لَآياتٍ أي لعبرات لِكُلِّ صَبَّارٍ عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات، شَكُورٍ (١٩) على النعم وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي وجد إبليس ظنه صادقا أنه يغوي بني آدم، أو في أنه خير منهم، فالمتبوع خير من التابع، فإبليس امتنع من عبادة غير الله، والمشركون يعبدون غير الله، فإبليس كفر بأمر أقرب إلى التوحيد، والمشركون كفروا بالإشراك.
وقرأ الكوفيون «صدق» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف أي صدق في ظنه، أو جعل ظنه صادقا. وقرئ بنصب «إبليس» ، ورفع «ظن» مع تشديد «صدق» بمعنى: وجد ظنه صادقا، ومع التخفيف بمعنى: قال له الصدق حين خيل له إغوائهم وبرفعها مع التخفيف على الإبدال فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) أي إلا فريقا هم المؤمنون، فإن المؤمنين كلهم لم يتبعون في أصل الدين، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين فإن المخلصين لم يتبعوه في العصيان
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، أي وما كان تسلط إبليس على بني آدم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هم في شك منها فنجازي كلا منهما، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع، قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي قل يا أشرف الخلق لكفار مكة بني مليح، وكانوا يعبدون الجن، ويظنون أنهم الملائكة: ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع. قال الله تعالى: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي