للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيديه فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم، فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فأنزل الله هذه الآية:

أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) ومفعولا «أرأيت» محذوفان حذف الأول لدلالة المفعول الأول من «أرأيت» الأولى عليه وحذف الثاني لدلالة مفعول «أرأيت» الثالثة عليه وأو بمعنى الواو، والمعنى: أخبرني يا محمد ذلك الناهي إن صار على الهدى وأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله والنهي عن خدمته كأنه تعالى يقول: تلهف يا مخاطب عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية، وقنع بالمراتب الدنيئة، وهو رجل عاقل ذو ثروة لا يليق به ذلك أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤) والجملة الاستفهامية تكون في موضع المفعول الثاني ل «أرأيت» ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود إلى الموصول، أو اسم إشارة يشار به إليه أي أرأيته يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وأعرض عن خدمة خالقه ألم يعلم يعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة أفلا ينزجر عنها كَلَّا أي لن يصل أبو جهل إلى ما يقول: إنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره، وهو عبد الله بن مسعود لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أي والله لئن لم ينته أبو جهل عن أذى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) أي لنأخذن الناصية ولنجرن بها إلى النار في الآخرة أو لنقبضن على الناصية في الدنيا روي أن أبا جهل لما قال: إن رأيته يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله تعالى هذه السورة، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأها على أبي جهل ويخر لله ساجدا في آخرها ففعل فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا فقيل له: ما لك قال: إن بيني وبينه فحلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لا لتقمني،

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا»

«١»

وروي أنه لما نزلت سورة الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «من يقرؤها منكم على رؤساء قريش» فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه فانصرف وعينه تدمع فلما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم رق قلبه وأطرق رأسه مغموما، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكا مستبشرا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي» فقال: ستعلم فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال صلّى الله عليه وسلّم له: «خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين» فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه فلما عرف عجزه ارتقى إلى صدره بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا،


(١) رواه الحاكم في المستدرك (١: ٥٦٧) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦: ٣٨٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>