الرزق لا تدل عن حال المحق، كما أن ضيقه لا يدل على حال المبطل، فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (٣٦) أن ضنك العيش وخصبها بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، أي وما الأموال والأولاد تقرب أحدا إلى الله إلا المؤمن الصالح الذي أنفق أمواله في سبيل الله تعالى، وعلّم أولاده الخير، وربّاهم على الصلاح فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ في الحسنات بِما عَمِلُوا من الصالحات، وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ أي غرفات الجنة آمِنُونَ (٣٧) من جميع المكاره.
وقرأ حمزة «الغرفة» على التوحيد على إرادة الجنس. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي يكذبونها مُعاجِزِينَ أي متأخرين عنها، وفي قراءة «معجزين» أي معتقدين عجزنا، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) أي يخرجون منه، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله، فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعوضه في الدنيا بالمال أو بالقناعة، وفي الآخرة بالحسنات وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) أي الواهبين للرزق، وأفضل المعوضين. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي بني مليح والملائكة جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ إهانة لهؤلاء الكفار- وقرأ حفص «يحشرهم»«ثم يقول» بالياء-: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) بأمركم؟
قالُوا أي الملائكة متبرئين منهم: سُبْحانَكَ أي ننزهك عن أن يكون غيرك معبودا وأنت معبودنا، ومعبود كل خلق أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت الذي نواليك أي نتقرب منك بالعبادة مِنْ دُونِهِمْ أي لم يكن لنا دخل في عبادتهم لنا.
وقال الرازي: معنى «أنت ولينا من دونهم» ، أي كونك ولينا بالمعبودية أحب إلينا من كون هؤلاء الضالين أولياء بالعبادة لنا، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، أي كانوا ينقادون لأمر الشياطين، فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الشياطين، وكنا نحن كالقبلة لهم أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) ، أي كل المشركين مصدقون للشياطين. وهذا محض كلام الله تعالى والوقف على الجن تام، وأما إذا قلنا: إن هذا من كلام الملائكة فمعنى أكثرهم على أصله وإنما قالوا ذلك لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب، أو على من في جميع الوجود، فَالْيَوْمَ أي يوم الحشر لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا يقدر المعبودون- وهم الملائكة- على نفع العابدين- وهم الكفار- بالثواب ولا على دفع ضررهم، وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا، وهذا معطوف على قوله تعالى:
يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أي ونقول: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها أي بالنار تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ، أي كفار مكة بلسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم آياتُنا الناطقة بحقيقة التوحيد وبطلان الشرك بَيِّناتٍ، أي واضحات قالُوا ما هذا أي التالي إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الآلهة وَقالُوا ما هذا أي القول بالوحدانية إِلَّا إِفْكٌ أي كلام مصروف عن وجهه،