(٩) ، فمراتب دعوة نوح عليه السلام ثلاثة فبدأ بالمناصحة في السر، فجازوه بالأمور الأربعة، ثم ثنى بالمجاهرة، وهي أشد من الإسرار، ثم جمع بين الإعلان والإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد فَقُلْتُ لهم: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ بالتوبة عن الكفر والمعاصي إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) في حق كل من استغفره
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) أي مطرا دائما، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ، أي يعطكم أموالا إبلا وبقرا وغنما وبنين ذكورا وإناثا، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) تجري لمنافعكم. قيل: لما كذبوا نوحا عليه السلام حبس الله عنهم المطر أربعين سنة، وقطع نسل دوابهم ونسائهم أربعين سنة وأهلك جناتهم،
وأيبس أنهارهم قبل ذلك بأربعين سنة فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا أن يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما كانوا فيه ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) أي أيّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه بالإيمان به والطاعة له وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) ، أي والحال أن الله خلقكم على حالات شتى نطفا، ثم علقا ثم مضغا ثم خلقكم عظاما ولحما، ثم أنشأكم خلقا آخر وهو إلقاء الروح فيه ويقال: والحال أنه تعالى خلقكم أصنافا مختلفين يخالف بعضكم بعضا، أَلَمْ تَرَوْا أي ألم تخبروا يا كفار مكة كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) أي متوازية بعضها فوق بعض مثل القبة، ملتزقة أطرافها، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أي منورا لوجه الأرض في ظلمة الليل ونسبته للكل مع أنه في السماء الدنيا، لأن كل واحدة من سبع سموات شفافة لا يحجب ما وراءها، فيرى الكل كأنها سماء واحدة، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) يزيل الظلمة ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض، كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى أبصاره. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) أي أنبتكم من الأرض، فنبتم نباتا عجيبا، والمعنى: والله أنشأكم منها فنشأتم نشأة عجيبة، فإنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات، المتولد من الأرض ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها بالدفن عند موتكم، وَيُخْرِجُكُمْ منها عند البعث والحشر، إِخْراجاً (١٨) محققا لا ريب فيه، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً (٢٠) أي لتأخذوا فيها طرقا واسعة.
قالَ نُوحٌ مناجيا له تعالى: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به من التوحيد والتوبة، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً (٢١) وهم رؤساؤهم الذين يدعونهم إلى الكفر. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «ولده» بفتح الواو واللام. والباقون بضم الواو وإسكان اللام وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) معطوف على صلة من أي واتبعوا من مكروا إلخ، أي كأن الرؤساء قالوا لأتباعهم: إن آلهتكم خير من إله نوح، لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح لا يعطيه شيئا، لأنه فقير فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح أو قالوا لأتباعهم هذه الأصنام آلهة لكم، وكانت آلهة لآبائكم فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك. وهذه