هذا بيان أن أعظم الدرجات الإيمان بالله والانقياد لطاعته، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وهم كفار قومه أجمعين وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن تابعه في أصول الدين لَإِبْراهِيمَ (٨٣) وإن اختلفت فروع شرائعها، وما كان بينهما إلّا نبيان: هود وصالح عليهم السلام، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) ، أي إذ أقبل إبراهيم إلى طاعة ربه بقلب خالص من كل عيب. وقال الأصوليون: المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس المعاصي، فيكون سليما عن الشرك، والغش، والحقد، والحسد.
وعن ابن عباس: أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه وسلم جميع الناس من غشه وظلمه.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ظرف ل «جاء» أو ل «سليم» ، وأما العامل في «إذا» الأولى فهو ما دلّ عليه قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ من معنى المتابعة. ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أي أيّ شيء تعبدونه أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) ! أي أتعبدون آلهة من غير الله لأجل الكذب؟ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في العبودية أو أنه جوّز جعل هذه الجمادات مشاركة له في العبودية. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) ، أي في علم النجوم وأراد أن يتخلف عنهم في عيد يخرجون إليه ليبقى خاليا في بيت الأصنام، فيقدر على كسرها ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان قومه يتعاملون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا يتعاملون به ليتركوه ويعذروه في التخلف عنهم. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) أي سأسقم سقم الموت، لأن من كتب الله عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت- كما قاله الضحاك- أو سقيم القلب عليكم لعبادتكم الأصنام، وذلك تورية ليتركوه وقيل: إنه نظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي. وأشار لهم إلى مرض يعدي كالطاعون وكانوا يهربون من الطاعون، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) أي فارين مخافة العدوى وتركوه، وعذروه في أن لا يخرج اليوم ذاهبين إلى عيدهم، فكان ذلك مراده، وكانوا في قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها: هرمز
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي ذهب إلى الأصنام في خفية، فَقالَ استهزاء بها: أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ؟ أي من الطعام لذي كانوا يصنعونه عندها لتبرك عليه ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) بجواب كلامي؟ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا ضربا شديدا قويا، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) أي إنهم لما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام وجدوها مكسرة، فسألوا عن المكسر، فظنوا أنه إبراهيم عليه السلام، فأتوا به يسرعون المشي.
وقرأ حمزة «يزفون» بضم الياء، أي يحملون غيرهم على الإسراع في المشي. قالَ لهم إبراهيم، أي بعد أن أتوا به عليه السلام وعاتبوه على كسر الأصنام: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) بأيديكم من العيدان والحجارة! وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) ؟ أي والحال أن الله تعالى خلقكم، وخلق معمولكم، فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك. قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) أي في النار الشديدة الاتقاد.