ذلك أمور حادثة مفتقرة إلى محدث قادر عليم حكيم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) أي إن كان لكم عقل، علمتم أن لا جواب فوق ذلك وأن الأمر كما قلته. قالَ فرعون لموسى عليه السلام لما عجز عن الحجج: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) أي لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني، وكان من عادة اللعين أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فردا لا يبصر فيها ولا يسمع حتى يموت، فكان ذلك أشد من القتل ولذلك لم يقل تعالى: لأسجننك، لأنه لا يفيد إلا صيرورته مسجونا.
وروي أن اللعين يفزع من موسى فزعا شديدا حتى كان لا يمسك بوله. قالَ موسى له:
أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) أي أتفعل بي ذلك ولو جئتك بأمر بيّن في باب الدلالة على وجود الله تعالى، وعلى أني رسوله أي وهل تستجيز أن تسجنني مع اقتداري على أن آتيك بالمعجزات الدالة على صدق دعواي؟!
قالَ فرعون له: فَأْتِ بِهِ أي بذلك الشيء إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) في دعوى الرسالة، وفي أن لك برهانا، وإنما أمره- عليه السلام- فرعون بالإتيان بالشيء الموضح لصدق دعواه عليه السلام، لظنه أنه يقدر على معارضته، ولطمعه في أن يجد موضعا للإنكار. فَأَلْقى عَصاهُ.
قال ابن عباس: عصا موسى اسمها ماشا. وقيل: نبعة. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) أي حية عظيمة صفراء، ذكر تبين للناظرين أنه ثعبان بحركاته وبسائر العلامات، وليس بتمويه كما يفعله السحرة: وَنَزَعَ يَدَهُ من إبطه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) تضيء الوادي من شدة بيضاها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس تعجب الناظرين إليها. قيل: لما رأى فرعون الآية الأولى قال هل لك غيرها فأخرج موسى يده فقال لفرعون ما هذه فقال فرعون: يدك. فما فيها فأدخلها في إبطه، ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار، ويسد الأفق، فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر أمورا ثلاثة. قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا الرسول لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) أي حاذق بالسحر، فإن الزمان كان زمن السحرة، وكان عند كثير منهم أن الساحر قد يجوز أن ينتهي بسحره إلى هذا الحد فلهذا روج فرعون عليهم هذا القول، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ أي يريد هذا الرجل أن يخرجكم من مصر بما يلقيه بينكم من العداوات، فيفرق جمعكم، وهذا يجري مجرى التنفير عن موسى عليه السلام، فإن مفارقة الوطن أصعب الأمور، فنفرهم عنه بذلك فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) أي فأيّ شيء تأمرونني به في شأنه؟ فإني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم. ومثل هذا الكلام يوجب انصراف القلوب عن العدو، فعند هذه الكلمات اتفقوا على جواب واحد قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر مناظرتهما لوقت اجتماع السحرة. وقيل:
احبسهما ولا تقتلهما لما روي أن فرعون أراد قتلهما، ولم يصل إليهما فقالوا له: لا تفعل فإنك إن قتلتهما أدخلت على الناس شبهة في الدين ولكن أخّر أمرهما إلى أن تجمع السحرة ليقاوموها، فلا تثبت لهما حجة عليك.