للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) ومحبة الله للعبد أعظم درجات الثواب. روي عن عيسى ابن مريم أنه قال:

«ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك» . واعلم أن الإنسان إلى الغير إما أن يكون بإيصال النفع إليه أو بدفع الضرر عنه، أما إيصال النفع إليه فيدخل فيه إنفاق العلم بأن يشتغل بتعليم الجاهلين، وهداية الضالين ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات، وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا بأن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة بإساءة أخرى فهذا داخل في كظم الغيظ، وأما في الآخرة بأن يبرئ ذمة الغير عن المطالبات فهذا داخل في العفو عن الناس. فهذه الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي معصية أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن أتوا أيّ ذنب كان ذَكَرُوا اللَّهَ أي خافوا الله. قال بعضهم: لما وصف الله تعالى الجنة بأنها معدة للمتقين بيّن أن المتقين قسمان:

أحدهما: الذين أقبلوا على الطاعات وهم الذين وصفهم الله بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس.

وثانيهما: الذين أذنبوا ثم تابوا. وعلى هذا فالاسم الموصول معطوف على الموصول قبله. وقيل: لما ندب الله تعالى في الآية الأولى إلى الإحسان إلى الغير ندب في هذه الآية إلى الإحسان إلى النفس وعلى هذا فالاسم الموصول معطوف على المحسنين.

روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في رجلين- أنصاري وثقفي- والرسول صلّى الله عليه وسلّم كان قد آخى بينهما وكانا لا يفترقان في أحوالهما، فخرج الثقفي مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري على أهله يتعاهدهم فكان يفعل ذلك، ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها، فندم الرجل، فلما وافى الثقفي مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم ير الأنصاري وكان قد هام في الجبال للتوبة فلما عرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم سكت حتى نزلت هذه الآية.

وقال عطاء: نزلت في شأن أبي سعيد نبهان التمار فإنه أتته امرأة حسناء تطلب منه تمرا بالشراء، فقال لها: هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر ذلك فنزلت هذه الآية: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أي أتوا بالتوبة على الوجه الصحيح لأجل ذنوبهم، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل فهذا هو حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب بل يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ولإظهار انقطاعه إلى الله


وأحمد في (م ١/ ص ٣٨٢)
.

<<  <  ج: ص:  >  >>