للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لعجز. فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة، فإذا قاس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن، والنبات والحيوان عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض. وإذا عرف بهذا البرهان قصور عقله لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجلّ من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين بل يسلم أن في كل ما خلقه الله تعالى حكما بالغة وأسرار عظيمة ولا سبيل له إلى معرفتها فعند هذا يقول: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا أي المخلوق العجيب باطِلًا أي بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك ومدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد سُبْحانَكَ وهذا إقرار بعجز العقول عن الإحاطة بآثار حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض أي إن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر. وهو أن خالقها ما خلقها باطلا بل خلقها لحكم عجيبة وأسرار عظيمة وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) أي ادفع عنا عذاب النار لأنه جزاء من عصى ولم يطع. اعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى وأبدانهم في طاعة الله وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ذكر أنهم مع هذه الطاعة يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار لأنه يجوز على الله تعذيبهم لأنه لا يقبح من الله شيء أصلا رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أهنته وَما لِلظَّالِمِينَ أي الكافرين مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) يمنعونهم من عذاب الله تعالى رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ أي سمعنا نداء مناد وهو كما قال محمد بن كعب القرآن المجيد يدعو الناس إلى الإيمان أي آمنوا بمتولي أموركم. فَآمَنَّا أي فامتثلنا أمره وأجبنا نداءه رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي كبائرنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أي صغائرنا.

وقيل: المراد بالأول ما يزول بالتوبة، وبالثاني ما تكفره الطاعة العظيمة. وقيل: المراد بالأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية، وبالثاني ما أتى به الإنسان مع جهله بذلك وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) أي على مثل أعمالهم لنكون في درجاتهم يوم القيامة. أو المعنى توفنا على الإيمان، واجمعنا مع أرواح النبيين والصالحين رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ والجار والمجرور متعلق بوعدتنا أي وعدتنا على تصديق رسلك أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف أي وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة

رسلك. وقيل: والمعنى وفقنا للأعمال التي نصير بها أهلا لوعدك من الثواب، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي وَلا تُخْزِنا أي لا تفضحنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) وهذا يدل على أن المقتضى لحصول منافع

<<  <  ج: ص:  >  >>