فيدخل في هذا الذم كل من كان قادرا على النهي عن المنكر من العلماء وغيرهم وتركه، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية أشد آية في القرآن. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها والله أعلم وَقالَتِ الْيَهُودُ.
قال ابن عباس وعكرمة والضحاك: إن الله تعالى قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا فلما بعث الله محمدا وكذبوا به ضيّق الله عليهم المعيشة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء وأخرج الطبراني عن ابن عباس: أنه قال النباش بن قيس: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا وهذه الكلمات دعاء عليهم.
والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاستثناء في قوله تعالى:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: ٢٧] ، وكما علمنا الدعاء على المنافقين في قوله تعالى: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة: ١٠] وعلى أبي لهب في قوله تعالى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] فحينئذ يكون المعنى دعاء عليهم بالبخل، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله تعالى وبغل الأيدي حقيقة بأن يغلوا في الدنيا أسارى وتشد أيديهم إلى أعناقهم في نار جهنم، ويسحبوا إلى النار بأغلالها وقوله: ولعنوا بما قالوا أي عذبوا في الدنيا بالجزية، وفي الآخرة بالنار بسبب قولهم ذلك بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عطف على مقدر، أي ليس الأمر على ما وصفتموه تعالى به من البخل بل هو تعالى جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه من الإنسان فقد أعطى على أكمل الوجوه، فتثنية اليد مبالغة في الوصف بالجود، وأيضا إن المراد بالتثنية المبالغة في وصف النعمة، فالمعنى أن نعمة الله متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة.
وقيل: التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة. وقيل: على إعطائه إكراما وعلى إعطائه استدراجا. فقيل: نعمتاه تعالى: نعمة الدين، ونعمة الدنيا. أو نعمة الباطن ونعمة الظاهر. أو نعمة النفع، ونعمة الدفع. أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أي يرزق خلقه كائنا على أي حال يشاء إن شاء قتر وإن شاء وسع وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً أي والله ليزيدن القرآن علماء اليهود غلوا في الإنكار وشدة في الكفر إذ كلما نزلت آية كفروا بها كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرضى مرضا وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فكل فرقة من اليهود تخالف الأخرى فلا يكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم فإن اليهود فرق فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية، وبعضهم مرجئة، وبعضهم مشبهة، وكذا النصارى فرق كالملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والماردانية كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أي كلما هموا بمحاربة أحد رجعوا خائبين مقهورين وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم