ذلك صحت توبتهم، وكلمة «إما» للشك بالنسبة لاعتقاد العباد، والمراد منه: ليكن أمرهم على الخوف والرجاء فجعل أناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل الله لهم عذرا. وأناس يقولون: عسى الله أن يغفر لهم، فالناس مختلفون في شأنهم فصاروا عندهم مرجئين لأمر الله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في قلوب هؤلاء المؤمنين حَكِيمٌ (١٠٦) فيما يحكم فيهم وفيما يفعل بهم وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً أي ومنهم الذين بنوا مسجدا وكانوا اثني عشر رجلا من المنافقين لإضرار أهل مسجد قباء وَكُفْراً أي ولتقوية الكفر بالطعن على النبي صلّى الله عليه وسلّم ودين الإسلام وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا يصلون في مسجد قباء أي لكي يصلي طائفة من المؤمنين في ذلك المسجد فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي انتظارا لأبي عامر الراهب الفاسق مِنْ قَبْلُ متعلق باتخذوا أي اتخذوا ذلك المسجد من قبل أن ينافق بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك، وكان أبو عامر قد تنصّر في الجاهلية وترهّب- أي لبس المسوح- وطلب العلم،
فلما قدم صلّى الله عليه وسلّم المدينة عاده لأنه زالت رئاسته وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد:«لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم»
. ولم يزل يقاتله صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند، فأخرج محمدا وأصحابه من المدينة فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الإحسان إلى المؤمنين وهو الرفق بهم في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن الذهاب إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) في حلفهم لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي لا تصل في ذلك المسجد أبدا.
روي أنه لما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة تبوك نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه إتيان مسجدهم، فنزلت عليه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا فقال لهم:«انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه»
«١» ففعلوا ذلك وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل ذلك الموضوع مكان كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر الفاسق بالشام بقنسرين غريبا وحيدا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أي بنى أصله على طاعة الله تعالى وذكره مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيام تأسيسه فقد أسس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجد قباء وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وخرج صبيحة الجمعة فدخل المدينة أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أي أن تصلي فيه ذلك
(١) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (٣: ٤٩٩) ، والقرطبي في التفسير (٨: ٥٣) ، والواحدي في أسباب النزول (١٧٦) .