بل المقصود منه قطع الجدل عن باب الدعوة، لأنها لا تحصل به أي ولما أمر الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباع إبراهيم بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه وهو أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالطريق الأحسن. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الذي أمرك بدعوة الخلق إليه وأعرض عن قبوله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) إليه أي إنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة، وحصول الهداية لا يتعلق بك فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس المظلمة الكدرة وباهتداء النفوس المشرقة الصافية وَإِنْ عاقَبْتُمْ أي إن أردتم المعاقبة فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي بمثل ما فعل بكم ولا تزيدوا عليه. وقد مر أنه تعالى أمر محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وتلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم، وبالحكم عليه بالضلالة وذلك مما يشوش قلوبهم ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانيا، وبالشتم ثالثا، ثم إن ذلك الداعي إذا عرف ذلك يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء بالقتل أو بالضرب، فعند هذا أمر الله الداعي في هذا المقام برعاية العدل وترك الزيادة ظلم وهو ممنوع في عدل الله ورحمته والله تعالى أمر في هذه الآية برعاية الإنصاف فيدخل فيها ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما رأى عمه حمزة قد مثل به المشركون في أحد فقطعوا أنفه وأذنيه وذكره وأنثييه وفجروا بطنه قال:«لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك»«١» فنزلت هذه الآية فكفر عن يمينه وكف عما أراده وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عن المعاقبة بالمثل لَهُوَ أي الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) لأن الرحمة أفضل من القسوة والنفع أفضل من الإيلام. والمقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى وطلب ترك الزيادة من الظالم وهذا ليس بمنسوخ وَاصْبِرْ على ما أصابك من جهتهم من فنون الأذية وَما صَبْرُكَ بشيء من الأشياء إِلَّا بِاللَّهِ أي بذكره وبالاستغراق في مراقبة شؤونه تعالى وبالتبتل إليه تعالى بمجامع الهمة وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي الكافرين بسبب إعراضهم عنك واستحقاقهم للعذاب الدائم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ أي غم.
وقرأ ابن كثير بكسر الضاد مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) أي من مكرهم بك في المستقبل فالضيق إذا قوى صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨) وهذا يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله. والمراد بالمعية هي بالرحمة والفضل والرتبة.