قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى إلخ. معنى التنزيه والتعجب أشار الله تعالى بذلك إلى أعجب أمر جرى بينه تعالى وبين أفضل خلقه لِنُرِيَهُ أي محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنْ آياتِنا أي بعض عجائب قدرتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر، وثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات، فحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلّى الله عليه وسلّم ممكن، وحينئذ يلزم أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه، لكن يبقى التعجب، لأنه حاصل في جميع المعجزات. فانقلاب العصا ثعبانا تبلغ سبعين ألفا من الحبال والعصي، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب، وكذا القول في جميع المعجزات، فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات وهو فرع على تسليم أصل النبوة. وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإبطال فكذا هاهنا فثبت أن المعراج ممكن غير ممتنع إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) أي إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد صلّى الله عليه وسلّم وأحواله بلا إذن، البصير بأفعاله بلا عين فيكرمه ويقربه بحسب ذلك أي فهو عالم بكونها مهذبة خالصة من شوائب الهوى، مقرونة بالصدق والصفا، متأهلة للقرب والزلفى ويقال: إنه تعالى هو السميع لمقالة قريش البصير بهم.
روي عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم كان نائما في بيت أم هاني بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ وقال:«مثل لي النبيون فصليت بهم» فلما قام ليخرج إلى المسجد تشبثت هي بثوبه صلّى الله عليه وسلّم فقال مالك: قالت: أخشى أن يكذبك الناس وقومك إن أخبرتهم، قال:«وإن كذبوني» . فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره بحديث الإسراء، فقال أبو جهل:
يا معشر كعب بن لؤي بن غالب، هلم فحدّثهم، فمن مصفّق، وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا، وارتد ناس ممن كان آمن به صلّى الله عليه وسلّم وذهب رجال إلى أبي بكر وقالوا له: إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر: إن كان قد قال ذلك فهو صادق. قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني أصدقه على أبعد من ذلك أي كأنه قال: لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا؟ ثم جاء أبو بكر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر الرسول له تلك التفاصيل فكلما ذكر صلّى الله عليه وسلّم شيئا قال له أبو بكر: صدقت. فلما تمم الكلام قال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله حقا.
فقال له الرسول:«وأنا أشهد أنك الصدّيق حقا» ويقال: إن هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو خاصة السميع لكلامنا البصير لذاتنا فهو السميع أذنا وقلبا بالإجابة لنا والقبول لأوامرنا البصير بصرا وبصيرة، وتوسيط ضمير الفصل للإشعار باختصاصه صلّى الله عليه وسلّم وحده بهذه الكرامة، ولهذا عقب الله تعالى بقوله هذا:
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة أي لما ذكر الله تعالى تشريف محمد صلّى الله عليه وسلّم بالإسراء ذكر عقبه تشريف موسى عليه السلام بإنزال التوراة عليه مع ما فيه من دعوته عليه السلام