المعاونة على كثرة الطاعات، والمرافقة في اقتحام عقبات السلوك وقطع مفاوزه. إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) أي عالما بأن ما دعوتك به مما يفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة، وبأن هارون نعم الردء في أداء ما أمرت به. قالَ الله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) أي قد أردت إعطاء مسؤولك ألبتة، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً
أُخْرى
(٣٧) ، أي في وقت غير هذا الوقت من غير سابقة دعاء منك وطلب. فلأن أنعم عليك بمثل تلك النعم التامة وأنت طالب له أولى. إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أي ألهمنا أمك الذي يلهم، أو أريناها في منامها الذي يرى، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، أي بأن تضعي الصبي في الصندوق، فَاقْذِفِيهِ أي فألقي الصبي، فِي الْيَمِّ أي في بحر النيل، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، أي فيلقي بحر النيل هذا الصبي على الشط. والأمر بمعنى الخبر، وحكمة صورة الأمر لوجوب وقوع ذلك، لتعلّق الإرادة الربانية به.
روي أن أم موسى اتخذت تابوتا، وجعلت فيه قطنا محلوجا، ووضعت فيه موسى عليه السلام، وقيرت رأس التابوت، وشقوقه بالقار، ثم ألقته في نيل مصر، وكان يشرع منه نهر كبير إلى دار فرعون، فرفعه الماء إليه، فأتى به إلى بركة في البستان، وكان فرعون جالسا على رأس البركة مع امرأته آسية بنت مزاحم، إذ بتابوت يجيء به الماء، فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراج ما فيه، ففتحوا رأس التابوت فإذا صبي من أصبح الناس وجها، فلما رآه فرعون أحبه شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وهو فرعون.
فالأول: باعتبار الواقع لكفره وعتّوه.
والثاني: باعتبار ما يؤول إليه، وما لو ظهر لفرعون حال موسى لقتله، وفي هذا الأمر بقذفه في البحر، وفي وقوعه في يد العدو، لطف خفي مندرج تحت قهر صوري. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي وألقيت عليك محبة عظيمة حاصلة مني، واقعة بخلقي، فلذلك أحبتك امرأة فرعون، حتى قالت لفرعون:«قرة عين لي ولك» لا تقتلوه.
ويروى أنه عليه السلام، كانت على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) ، معطوف على علة مقدرة متعلقة بألقيت، والتقدير وألقيت عليك المحبة ليعطف عليك، ولتربى بالشفقة بحفظي. وقرأ العامة «لتصنع» بالبناء للمجهول، بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، وقرئ بكسر اللام، وسكونها، وبالجزم بلام الأمر. وقرأ الحسن وأبو نهيك، بفتح التاء بالبناء للفاعل. أي ليكون تصرفك على رعاية مني. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ، مريم وكانت شقيقته، وهي غير أم عيسى، وهذا الظرف متعلق بألقيت، أي ألقيت عليك محبة مني في وقت مشي أختك، أو بتصنع أي لتربى، ويحسن إليك في هذا الوقت، فَتَقُولُ لفرعون وآسية: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ أي يربيه، ويرضعه.