السَّرِقَةُ وَالزِّنَا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَضْيِيقِ تَحْصِيلِهِ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالنَّهْيِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْبَيْعِ أَصْلٌ فِيهِ وَالْجَوَازُ مُعَارِضٌ وَهُوَ التَّقَابُضُ وَالْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصٌ إذْ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ «لَا تَبِيعُوا» لَمَا جَازَ بَيْعُهُ وَتَعْلِيقُ جَوَازِهِ بِشَرْطَيْنِ يَدُلُّ عَلَى عِزَّتِهِ وَخَطَرِهِ كَمِلْكِ الْبُضْعِ ضُيِّقَ تَحْصِيلُهُ بِاشْتِرَاطِ الشُّهُودِ وَالْمَهْرِ لِعِزَّتِهِ وَخَطَرِهِ فَيُعَلَّلُ بِعِلَّةٍ تُنَاسِبُ الْعِزَّةَ وَهِيَ الطُّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ لِبَقَاءِ الْأَنْفُسِ بِهِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ مَصَالِحِهَا بِهَا وَلَا أَثَرَ لِلْجِنْسِيَّةِ وَالْقَدْرِ فِي زِيَادَةِ الْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ لِوُجُودِهِمَا فِي خَطِيرٍ وَحَقِيرٍ، لَكِنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ كَالرَّجْمِ مَعَ الْإِحْصَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْعِلَّةِ أَنَّ الْعِلَّةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْحُكْمِ دُونَ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يُضَافُ وُجُودُهُ إلَى الْعِلَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا إلَى الشَّرْطِ وَقَالَ مَالِكٌ: الْعِلَّةُ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَصَّ بِالذِّكْرِ فِيمَا رَوَيْنَا كُلَّ مُقْتَاتٍ وَمُدَّخَرٍ وَلِأَنَّ الْعِزَّةَ وَالْخَطَرَ بِهِ أَكْمَلُ فَكَانَ أَنْسَبَ وَأَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ وَأَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا وُزِنَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا وَمَا كِيلَ فَمِثْلُ ذَلِكَ فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُمَا عِلَّةُ الْحُكْمِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ يُنْبِئُ عَنْ عِلِّيَّةِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ مِثْلًا بِمِثْلٍ بِسَبَبِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ مَعَ الْجِنْسِ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا فَقَالَ: إنَّا نَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ فَقَالَ لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلُ ذَلِكَ» أَيْ فِي الْمَوْزُونِ إذْ نَفْسُ الْمِيزَانِ لَيْسَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا وَهُوَ أَقْوَى حُجَّةً فِي عِلِّيَّةِ الْقَدْرِ وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْزُونَ كُلَّهُ الثَّمَنَ وَالْمَطْعُومَ وَغَيْرَهُمَا فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمَا فِي مَنْعِهِمَا ذَلِكَ وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ» الْمُرَادُ مَا يَحِلُّ الصَّاعَ إذْ لَا يَجْرِي الرِّبَا فِي نَفْسِ الصَّاعِ وَهُوَ عَامٌّ فِيمَا يَحِلُّهُ فَيَتَنَاوَلُ الْمَطْعُومَ وَغَيْرَهُ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمَا وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مَجَازٌ فَلَا عُمُومَ لَهُ لِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَهُ عُمُومٌ كَالْحَقِيقَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إنَّمَا تَعُمُّ لِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهَا لَا لِكَوْنِهَا حَقِيقَةً وَالْمَجَازُ يُشَارِكُهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى فَيَعُمُّ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّمَاثُلُ إذْ الْبَيْعُ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَابُلِ وَذَلِكَ بِالتَّمَاثُلِ وَاعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فَأَوْجَبَهُ صِيَانَةً لِأَمْوَالِهِمْ عَنْ التَّوَى وَتَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَكُونُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ قَدْرًا تَاوِيًا عَلَى صَاحِبِهِ بِلَا عِوَضٍ وَكَذَا الْحَالُّ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤَجَّلِ فَتَفُوتُ بِهِ التَّسْوِيَةُ وَفَائِدَةُ الْمُبَايَعَةِ لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مِثْلًا بِمِثْلٍ» فَعِنْدَ فَوَاتِهِ تَلْزَمُ الْحُرْمَةُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْفَضْلُ رِبًا فَيُعَلَّلُ بِعِلَّةٍ تُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ التَّمَاثُلِ فَيَتَعَيَّنُ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِهِ إذْ التَّمَاثُلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ مَوْجُودٌ بِاعْتِبَارِهِمَا فَالْمِعْيَارُ يُسَوِّي الذَّاتَ وَالْجِنْسِيَّةُ تُسَوِّي الْمَعْنَى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَقْصِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَيْلًا مِنْ بُرٍّ يُسَاوِي كَيْلًا مِنْ أُرْزٍ أَوْ شَعِيرٍ فِي الصُّورَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ لِعَدَمِ مَا قُلْنَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّفَاوُتِ فِي الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا فِي الْعَادَةِ وَلِأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِيهِ غَيْرَ مُتَفَاوِتٍ فَاشْتِرَاطُ التَّسَاوِي فِيهِ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ وَالطَّعْمُ وَالِاقْتِيَاتُ وَالثَّمَنِيَّةُ وَالِادِّخَارُ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا مِنْ أَشَدِّ الْحَاجَاتِ وَأَهَمِّهَا فَسُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي مِثْلِهِ التَّوْسِعَةُ وَالْإِطْلَاقُ دُونَ التَّضْيِيقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيْتَةَ أَبَاحَهَا عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ لِلْحَاجَةِ وَكَذَا أَجَازَ الِانْتِفَاعَ بِالْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَظِنَّةِ الْحَاجَةِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) لَفْظُ الْخُدْرِيِّ لَيْسَ فِي خَطِّ الشَّارِحِ. اهـ. (قَوْلُهُ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا) يُقَالُ لَهُ سَوَادُ بْنُ غَزِيَّةَ. اهـ. (قَوْلُهُ فَقَالَ: «لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ») قَالَ فِي الْمُغْرِبِ وَالْجَمْعُ الدَّقَلُ؛ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ وَيُخْلَطُ مِنْ تَمْرِ خَمْسِينَ نَخْلَةً وَقِيلَ كُلُّ لَوْنٍ مِنْ النَّخْلِ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ فَهُوَ جَمْعٌ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى التَّمْرِ الرَّدِيءِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَالْجَنِيبُ مِنْ أَجْوَدِ التَّمْرِ اهـ وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ أَيْضًا: الدَّقَلُ مِنْ أَرْدَأِ التَّمْرِ. اهـ. (قَوْلُهُ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ») أَيْ وَلَا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ اهـ غَايَةٌ (قَوْلُهُ الْمُرَادُ مَا يَحِلُّ الصَّاعِ) أَيْ وَيُجَاوِرُهُ مَجَازًا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ إذْ لَا يَجْرِي الرِّبَا فِي نَفْسِ الصَّاعِ) أَيْ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمِكْيَالِ بِمِكْيَالَيْنِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فَيَتَنَاوَلُ الْمَطْعُومَ وَغَيْرَهُ) وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ عِلَّتِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ مُتَفَاضِلًا مَعَ وُجُودِ الطُّعْمِ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى رَأْسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَسْقَ وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا مُتَفَاضِلًا. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إنَّمَا تَعُمُّ لِأَمْرٍ زَائِدٍ) وَذَلِكَ إمَّا الْأَلْفُ وَاللَّامُ أَوْ لَفْظُ الْجَمْعِ أَوْ الْجِنْسِ اهـ مِنْ خَطِّ الشَّارِحِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ) أَيْ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» إيجَابُ التَّمَاثُلِ لَا إيجَابُ الْبَيْعِ. اهـ. (قَوْلُهُ صِيَانَةً لِأَمْوَالِهِمْ عَنْ التَّوَى)؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ إذَا كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الْآخَرِ يَكُونُ الزَّائِدُ خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ وَفِيهِ تَلَفُ الزَّائِدِ فَاشْتَرَطَ الْمُمَاثَلَةَ حَتَّى تُصَانَ أَمْوَالُ النَّاسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «وَالْفَضْلُ رِبًا» أَيْ الْفَضْلُ عَلَى الْمُتَمَاثِلِ رِبًا أَيْ إنَّ الَّذِي نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥] الْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْفَضْلُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَالطُّعْمُ وَالِاقْتِيَاتُ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ مُتَمَسَّكِ الشَّافِعِيِّ. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute