عَادَةً بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلَمَّا كَانَتْ حَاجَةُ الْحَيَوَانِ إلَى الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالنَّفَسِ أَشَدَّ جَعَلَهُ اللَّهُ أَوْسَعَ مِنْ غَيْرِهَا وَكُلُّ مَا اشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ كَانَتْ التَّوْسِعَةُ فِيهِ أَكْثَرَ فَتَعْلِيلُهُ بِمَا يُوجِبُ التَّوْسِعَةَ عَلَى التَّضْيِيقِ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى فَسَادِ الْوَضْعِ أَنْ يَفْسُدَ وَضْعُ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ لِكَوْنِهِ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَيُضَادَّهُ.
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُرْمَةَ الْبَيْعِ أَصْلٌ بَلْ الْأَصْلُ هُوَ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ إذَا ثَبَتَتْ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لَهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ خُلِقَتْ لِلِابْتِذَالِ فَيَكُونُ بَابُ تَحْصِيلِهَا مَفْتُوحًا فَيَجُوزُ مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يُرَدُّ عَلَى الْبِضْعِ وَهُوَ مُحْتَرَمٌ فَيُنَاسِبُ التَّضْيِيقَ إعْزَازًا لَهُ لِشَرَفِ الْآدَمِيِّ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ الْمُسَاوَاةَ مُخَلِّصٌ بَاطِلٌ وَلَئِنْ كَانَ مُخَلِّصًا فَهَلْ مُخَلِّصٌ فِي حَالَةِ التَّسَاوِي وَعِلَّةُ الْحُرْمَةِ فِي حَالَةِ التَّفَاضُلِ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَتَضَمَّنُ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فِي مَحِلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالنِّكَاحِ يُثْبِتُ الْحِلَّ فِي الْمَنْكُوحَةِ وَالْحُرْمَةَ فِي أُمِّهَا فَكَذَا الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ يُوجِبَانِ الْحُرْمَةَ عِنْدَ التَّفَاضُلِ وَالْحِلَّ عِنْدَ التَّسَاوِي وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا هُمَا عِلَّةُ الرِّبَا وَالْقَاطِعُ لِلشَّغَبِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطُ التَّمَاثُلَ بِقَوْلِهِ «مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَالتَّمَاثُلُ يَكُونُ بِالْوَزْنِ أَوْ الْكَيْلِ لَا غَيْرَ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ لَا يَكُونُ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَأَنَّ الْأَمْوَالَ الرِّبَوِيَّةَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَمَا لَا يَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَيْسَتْ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ إذْ الْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ مَحِلِّهِ وَلِهَذَا قَالُوا: لَا يَجْرِي الرِّبَا فِيمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمِعْيَارِ كَالْحَفْنَةِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَكَالذَّرَّةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِعَدَمِ مَا قُلْنَا. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَحَرُمَ الْفَضْلُ وَالنَّسَاءُ بِهِمَا) أَيْ بِالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا عِلَّةُ الرِّبَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالنَّسَاءُ فَقَطْ بِأَحَدِهِمَا) أَيْ حَرُمَ النَّسَاءُ وَحَلَّ التَّفَاضُلُ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا إمَّا الْقَدْرُ دُونَ الْجِنْسِ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ أَوْ الْجِنْسُ دُونَ الْقَدْرِ كَالْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ لِقَوْلِهِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُرْمَةَ الْبَيْعِ أَصْلٌ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِذَا عُدِمَ الْوَصْفَانِ الْجِنْسُ وَالْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَيْهِ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ الْحِلُّ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: ٢٧٥] وَإِنَّمَا الْحُرْمَةُ بِعَارِضِ عِلَّةِ الرِّبَا وَهِيَ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ فَإِذَا انْعَدَمَتْ عِلَّةُ الْحُرْمَةِ كَانَ حَلَالًا بِالْحِلِّ الْأَصْلِيِّ. اهـ. (قَوْلُهُ كَالْحَفْنَةِ مِنْ الْحِنْطَةِ إلَخْ) وَالْخَمْسُ حَفَنَاتٍ لَيْسَتْ حَفَنَاتٍ إذَا لَمْ تَبْلُغْ نِصْفَ الصَّاعِ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ فَحَرَّمَ الْفَضْلَ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَسَائِرُ الْمَوْزُونَاتِ خِلَافَ النَّقْدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا كَإِسْلَامِ حَدِيدٍ فِي قُطْنٍ أَوْ زَيْتٍ فِي جُبْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا إذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَزْنِيًّا بِالصَّنْعَةِ إلَّا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَوْ أَسْلَمَ سَيْفًا فِيمَا يُوزَنُ جَازَ إلَّا فِي الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا وَمَنْعُهُ فِي الْحَدِيدِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ وَكَذَا يَجُوزُ بَيْعُ إنَاءٍ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ يَدًا بِيَدٍ نُحَاسًا كَانَ أَوْ حَدِيدًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَثْقَلَ مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهَا رِبَا الْفَضْلِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَاعُ وَزْنًا؛ لِأَنَّ صُورَةَ الْوَزْنِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِيهِمَا فَلَا تَتَغَيَّرُ بِالصَّنْعَةِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَزْنِ بِالْعَادَةِ وَأُورِدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ حِينَئِذٍ إسْلَامُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِاخْتِلَافِ طَرِيقَةِ الْوَزْنِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ امْتِنَاعَهُ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ النَّقْدِ مُسْلَمًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَهُمَا مُتَعَيِّنَانِ لِلثَّمَنِيَّةِ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعًا قِيلَ إنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ يَجُوزُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ السَّلَمِ فَقَدْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ قَالَ الطَّحَاوِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ اِ هـ (قَوْلُهُ وَالنَّسَاء) بِالْمَدِّ لَيْسَ غَيْرُ اهـ كَمَالٌ (قَوْلُهُ كَالْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ) قَالَ الْكَمَالُ: وَكَذَا إذَا بَاعَ عَبْدًا بِعَبْدٍ إلَى أَجَلٍ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ بِعَبْدَيْنِ أَوْ الْهَرَوِيَّ بِهَرَوِيَّيْنِ حَاضِرًا جَازَ اهـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: إنَّهُ إذَا بَاعَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا بِثَوْبٍ هَرَوِيٌّ أَوْ مَرْوِيًّا بِمَرْوِيٍّ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَيَجُوزُ عِنْدَهُ وَكَذَا لَوْ بَاعَ حَيَوَانًا بِحَيَوَانٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَأَجْمَعُوا أَنَّ التَّفَاضُلَ يَحِلُّ وَكَذَلِكَ إسْلَامُ الْمَكِيلَاتِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ فِي الْمَوْزُونَاتِ نَحْوُ الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَهُ وَيَرِدُ عَلَيْهِ الْمَطْعُومُ فِي الْمَطْعُومِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ كَالْحِنْطَةِ فِي الشَّعِيرِ وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّقَابُضَ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ شَرْطٌ عِنْدِي وَلَمْ يُوجَدْ التَّقَابُضُ فَفَسَدَ الْعَقْدُ بِهَذَا لَا لِكَوْنِهِ نَسَاءً قَالَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ: وَهَذَا خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةِ النَّسَاءِ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ لَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهَّزَ جَيْشًا فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إلَى أَجَلٍ» وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفَضْلِ لَا تَحْرُمُ بِالْإِجْمَاعِ وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ كَالْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيَّيْنِ وَالْمَرْوِيِّ بِالْمَرْوِيَّيْنِ فَلَأَنْ لَا تَحْرُمَ شُبْهَةُ الْفَضْلِ وَهِيَ فَضْلُ الْحُلُولِ عَلَى النَّسِيئَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» وَلِأَنَّ الْجِنْسَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا فَيُعْتَبَرُ فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ كَالْوَصْفِ الْآخَرِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ نَسِيئَةً بِالِاتِّفَاقِ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ ثُبُوتِ الْعِلَّةِ فَإِذَا وُجِدَتْ عِلَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِوُجُودِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرِّبَا حَقِيقَةً وَإِذَا وُجِدَتْ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ بِوُجُودِ أَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ تَثْبُتُ شُبْهَةُ الرِّبَا وَالِاحْتِرَازُ عَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا وَاجِبٌ كَالِاحْتِرَازِ عَنْ حَقِيقَةِ الرِّبَا؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ بِحَقِيقَةِ أَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا مِنْ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ إذَا وُجِدَ كَانَ ذَلِكَ مَالَ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ لِحُصُولِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهٍ إمَّا ذَاتًا بِالْكَيْلِ أَوْ مَعْنًى بِالْجِنْسِ وَالْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْحُلُولُ فَضْلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَثْبُتُ بِهِ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ فَيُحْتَرَزُ عَنْهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute