للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَجَلَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ مَا فِي الذِّمَّةِ فَيَصِحُّ حَالًّا كَالْمُعَيَّنِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ فَيَكُونُ فِيهِ الْأَجَلُ جَائِزًا تَرْفِيهًا لَا شَرْطًا كَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِهِ ظَاهِرًا وَذَلِكَ يَكْفِي لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ كَانَ قَادِرًا بِمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ بِهِ وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ أَوَّلًا قَبْلَ قَبْضِهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ غَيْرَ مَالِكٍ لِشَيْءٍ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا التَّأْجِيلُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّحْصِيلِ وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَشَرَطَ فِيهِ إعْلَامَ الْأَجَلِ كَمَا شَرَطَ إعْلَامَ الْقَدْرِ فَكَانَ لَازِمًا كَالْقَدْرِ.

وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ بِصِفَةٍ لَا يُوجَدُ بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ كَالصَّلَاةِ شُرِعَتْ بِوُضُوءٍ فَلَا تُوجَدُ بِدُونِهِ وَالرَّهْنُ شُرِعَ مَقْبُوضًا فَلَا يُوجَدُ بِدُونِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلْيَدْخُلْ غَاضَّ الْبَصَرِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا إلَّا وَهُوَ كَذَلِكَ وَكَمَنْ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَتَوَضَّأْ وَمَا رَوَاهُ حِكَايَةُ حَالٍ فَلَا عُمُومَ لَهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَخَّصُ هُوَ الْمُؤَجَّلُ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فَمَا بِهِ تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي فِيهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِهِ يَكُونُ شَرْطًا ضَرُورَةً وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْأَصْلِ هُوَ تَعْيِينُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِهِ بِأَبْلَغِ الْجِهَاتِ حَتَّى إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ مَعَ تَعْيِينِهِ كَالْآبِقِ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَرَامٌ وَإِنَّمَا أُجِيزَ فِي السَّلَمِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ رُخْصَةً لِأَجْلِ الْمَفَالِيسِ لِمَا رَوَيْنَا وَالرُّخْصَةُ اسْمٌ لِمَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُحَرِّمِ وَالْحُرْمَةُ لِعُذْرٍ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ.

وَالْعُذْرُ هُنَا هُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ لِعُسْرَتِهِ وَالْعَجْزُ بِسَبَبِ الْعَدَمِ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ وَالْإِمْهَالِ إلَى زَمَانِ التَّحْصِيلِ أَوْ الْحَصَادِ فَأَسْقَطَ التَّعْيِينَ لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ وَعَوَّضَ الْأَجَلَ لِتَقُومَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّحْصِيلِ مَقَامَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِيهَا مَعْقُودٌ بِهِ لَا مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَالشَّرْطُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَالثَّمَنِ حَتَّى جَازَ اسْتِبْدَالُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّعْيِينِ فَلَا يَجِبُ تَعْيِينُهُ حَتَّى يُقَامَ الْأَجَلُ مَقَامَ التَّعْيِينِ وَلَا يَدْخُلُهُ رُخْصَةٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَهُ أَصْلٌ وَلَيْسَ بِعَارِضٍ لِلْعُذْرِ وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ إرْفَاقٍ فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ الْمَوْلَى ظَاهِرًا وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ بِالْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ إذْ لَوْ أَرَادَ التَّضْيِيقَ عَلَيْهِ لَمَا كَاتَبَهُ أَصْلًا إذْ الْعَبْدُ وَكَسْبُهُ لَهُ وَأَمَّا السَّلَمُ فَعَقْدُ تِجَارَةٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُضَايَقَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ عَقِبَ الْعَقْدِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ فَيُؤَخَّرُ بِالتَّأْجِيلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّحْصِيلِ وَلَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ فِيهِ يَجِبُ تَسْلِيمُهُمَا فِي الْمَجْلِسِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ التَّحْصِيلِ بِالْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ وَهَذَا يُنَافِي مَعْنَى الرُّخْصَةِ لِأَجْلِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَمَا كَانَ شَرْعِيَّتُهُ إلَّا نَفْعًا لَهُمْ فَانْقَلَبَ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ وَلَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمَفَالِيسِ لَمَا جَازَ لِغَيْرِ الْمُفْلِسِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الشَّيْءُ فِي السَّلَمِ لَا يُبَاعُ عَادَةً إلَّا بِأَقَلَّ وَلَا يُقْدِمُ عَلَى مِثْلِهِ إلَّا الْمُحْتَاجُ.

فَدَلَّنَا إقْدَامُهُ عَلَى هَذَا الْبَيْعِ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ فَأُقِيمَ ذَلِكَ مَقَامَ الْحَاجَةِ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا كَمَا أُقِيمَ السَّفَرُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا مَقَامَ الْخُرُوجِ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِمَا وَشُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَأَقَلُّهُ شَهْرٌ) أَيْ أَقَلُّ الْأَجَلِ شَهْرٌ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ آجِلٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدِينَ إذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ فَإِذَا كَانَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ كَانَ الشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ فِي حُكْمِ الْآجِلِ وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا اعْتِبَارًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ مَا كَانَ مَقْبُوضًا فِي الْمَجْلِسِ وَالْمُؤَجَّلُ مَا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ عَنْ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ بَيْنَهُمَا عَادَةً أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَعَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي التَّأْجِيلِ فِي مِثْلِهِ فَإِنْ أَحَلَّ فِيهِ قَدْرَ مَا يُؤَجِّلُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَبِهِ يُفْتَى.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَقَدْرُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ فَيَكُونُ فِيهِ الْأَجَلُ جَائِزًا إلَخْ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا قَالَ الْكَمَالُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ السَّلَمُ الْحَالُّ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: أَسْلَمْتُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا إلَى آخِرِ الشُّرُوطِ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَدِلُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَدِيثٍ وَهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَإِنَّمَا الْوَجْهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فَوَجَبَ نَفْيُهُ. اهـ. (قَوْلُهُ وَمَا رَوَاهُ حِكَايَةُ حَالٍ) وَالْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَخَّصَ فِي السَّلَمِ فَنَقُولُ ذَاكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ وَالضَّرُورَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَلَكِنْ لَا ضَرُورَةَ فِي سَلَمِ الْحَالِّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَادِرًا انْتَفَتْ الضَّرُورَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا انْتَفَى الْغَرَضُ وَالْمَقْصُودُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا اعْتِبَارًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ) أَيْ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ ثَمَّةَ بِالثَّلَاثِ بَيَانُ أَقْصَى الْمُدَّةِ فَأَمَّا أَدْنَاهُ فَغَيْرُ مُقَدَّرٍ. اهـ. فَتْحٌ وَغَايَةٌ (قَوْلُهُ وَعَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مِقْدَارِ الْمُسَلَّمِ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ مُحَقَّقٌ فِيهِ وَكَذَا مَا عَنْ الْكَرْخِيِّ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي تَأْجِيلِ مِثْلِهِ كُلُّ هَذَا تَنْفَتِحُ فِيهِ الْمُنَازَعَاتُ بِخِلَافِ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الزَّمَانِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) أَيْ تَقْدِيرُ الْأَجَلِ بِشَهْرٍ اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>