للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ الْجَهْلُ وَمُنْكِرٌ لُزُومَ الْمُطَالَبَةِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الْكَفِيلِ وَيَحْبِسُهُ الْقَاضِي إلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَيْهِ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى إسْقَاطِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَدَّعِي، وَإِنْ أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا أُمِرَ الْكَفِيلُ بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَإِحْضَارِهِ اعْتِبَارًا لِلثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ بِالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، وَكَذَا لَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا تَسْقُطُ الْكَفَالَةُ فَيُؤَجَّلُ الْكَفِيلُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ وَلَا يُقَالُ بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ كَالْمَوْتَى وَلِهَذَا يُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا لَيْسَ كَمَوْتِهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ فِي حَقِّ قِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَهُوَ حَيٌّ مُطَالَبٌ بِالتَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعِ وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ إلَى الْخَصْمِ فَبَقِيَ الْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمَبْسُوطِ وَفِيهِ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ إنَّهُ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ بِأَنْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُوَاعَدَةٌ أَنَّ مَنْ لَحِقَ بِهِمْ مُرْتَدًّا يَرُدُّونَهُ إلَيْنَا إذَا طَلَبْنَا يُمْهَلُ الْكَفِيلُ قَدْرَ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ.

ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ قُلْنَا إنَّهُ يُؤْمَرُ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ لِلطَّالِبِ أَنْ يَسْتَوْثِقَ الْكَفِيلَ بِكَفِيلٍ آخَرَ حَتَّى لَا يَغِيبَ الْآخَرُ فَيَضِيعَ حَقُّهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ سَلَّمَهُ بِحَيْثُ يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ كَمِصْرٍ بَرِئَ)؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ؛ إذْ لَمْ يَلْتَزِمْ تَسْلِيمَهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَحَصَلَ مَقْصُودُ الطَّالِبِ أَيْضًا بِذَلِكَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ الْكَفَالَةِ فَصَارَ نَظِيرَ مَا لَوْ تَكَفَّلَ بِمَالٍ وَقَضَاهُ سَوَاءٌ كَانَ التَّسْلِيمُ غَيْرَ مَشْرُوطٍ فِي وَقْتٍ، أَوْ كَانَ مَشْرُوطًا فِيهِ فَسَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْكَفِيلِ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ كَالدِّينِ الْمُؤَجَّلِ إذَا قَضَاهُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ يُجْبَرُ الطَّالِبُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَدِينِ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ، ثُمَّ التَّسْلِيمُ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَصْمِ وَذَلِكَ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ فَيَقُولُ لَهُ هَذَا خَصْمُك فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِشَأْنِهِ فَخُذْهُ إنْ شِئْت، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ بَعْدَ طَلَبِهِ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ طَلَبِهِ بَرِئَ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ سَلَّمْته إلَيْك بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إعَادَةَ قَوْلِ الطَّالِبِ، وَإِنْ سَلَّمَهُ بِغَيْرِ طَلَبٍ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَقُولَ سَلَّمْته إلَيْك بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

(وَلَوْ شَرَطَ تَسْلِيمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي سَلَّمَهُ ثَمَّةَ)؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُفِيدٌ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي الْتَزَمَهُ فَإِذَا سَلَّمَهُ فِي مَجْلِسِهِ بَرِئَ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ فِي السُّوقِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَقِيلَ: لَا يَبْرَأُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَبِهِ يُفْتَى فِي زَمَانِنَا لِتَهَاوُنِ النَّاسِ فِي إقَامَةِ الْحَقِّ، وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي بَرِّيَّةٍ، أَوْ فِي سَوَادٍ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُخَاصَمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ التَّسْلِيمُ فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لَا يَبْرَأُ بِمِثْلِ هَذَا التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ بَرِئَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَسْلِيمُهُ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي وَقَدْ وُجِدَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي الْتَزَمَهُ، وَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مِصْرٍ كَفَلَ فِيهِ، وَهُوَ مُفِيدٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ شُهُودُهُ فِيهِ، أَوْ يَعْرِفَ قَاضِي ذَلِكَ الْمِصْرِ حَادِثَتَهُ، فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ فِيهِ قُلْنَا الِاحْتِمَالُ مُشْتَرَكٌ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شُهُودُهُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ.

وَكَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَاضِي ذَلِكَ الْمِصْرِ يَعْلَمُ حَادِثَتَهُ فَتَعَارَضَ الْمَوْهُومَانِ فَبَقِيَ التَّسْلِيمُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَيَبْرَأُ وَقِيلَ: هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ حِينَ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَالْعُمَّالُ كَانُوا يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الْبِرِّ وَلَا يَمِيلُونَ إلَى الرِّشْوَةِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بَيْنَ مِصْرِهِ وَمِصْرٍ آخَرَ، وَهُمَا قَالَا ذَلِكَ بَعْدَ مَا ظَهَرَ الْفَسَادُ وَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ حَتَّى لَا يُقِيمُونَ الْحَقَّ إلَّا بِالرِّشْوَةِ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِصْرُهُ أَسْهَلَ لِإِثْبَاتِ حُقُوقِهِ وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّسْلِيمِ تَمَكُّنُهُ مِنْ إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ لِيُثْبِتَ عَلَيْهِ الْحَقَّ وَلَا يُفِيدُ فِي الْمَحْبُوسِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَطْلُوبِ، وَالْكَفِيلِ لَا الطَّالِبِ) يَعْنِي الْكَفَالَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَبِمَوْتِ الْكَفِيلِ وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَكْفُولِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِمَوْتِهِ بَرِئَ هُوَ بِنَفْسِهِ وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ أَصِيلٌ، وَالْكَفِيلُ تَبَعٌ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْحُضُورِ بِالْمَوْتِ سَقَطَ عَنْهُ فَكَذَا عَنْ التَّبَعِ لِمَا قُلْنَا وَبَعْدَ مَوْتِ الْكَفِيلِ لَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ مِنْهُ وَوَرَثَتُهُ لَا يَقُومُونَ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهُ فِيمَا لَهُ لَا فِيمَا عَلَيْهِ وَمَالُهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ، وَهُوَ إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ إذَا مَاتَ؛ لِأَنَّ مَالَهُ صَالِحٌ لَهُ وَحُكْمُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُمْكِنٌ فَيُوفَى مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْوَرَثَةِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

إلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ كَالْإِعْسَارِ بِالدَّيْنِ اهـ.

كَمَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ: فَيُؤَجَّلُ الْكَفِيلُ مُدَّةَ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ وَلَمْ يُفَصَّلْ فِي الْمَذْهَبِ بَيْنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا لَا يَسْقُطُ الطَّلَبُ كَمَا فِي دُونِهَا وَالثَّانِي يَسْقُطُ إلْحَاقًا بِالْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ اهـ.

(قَوْلُهُ مُوَاعَدَةٌ) أَيْ مُوَادَعَةٌ اهـ وَبِهِ عَبَّرَ الْكَاكِيُّ وَقَوْلُهُ مُوَاعَدَةٌ كَذَا بِخَطِّ الشَّارِحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَلَوْ شَرَطَ تَسْلِيمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي إلَخْ) وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ فَدَفَعَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ عُزِلَ ذَلِكَ الْوَالِي وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَدَفَعَ إلَيْهِ عِنْدَ الثَّانِي جَازَ اهـ.

غَايَةٌ نَقْلًا عَنْ الْخُلَاصَةِ (قَوْلُهُ لِإِثْبَاتِ حُقُوقِهِ) قَالَ الْكَمَالُ وَقَوْلُهُمَا أَوْجُهُ اهـ.

(قَوْلُهُ وَلَا يُفِيدُ فِي الْمَحْبُوسِ) نُقِلَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى عَنْ كَفَالَةِ الْعُيُونِ إذَا ضَمِنَ لِآخَرَ بِنَفْسِهِ فَحُبِسَ الْمَطْلُوبُ فَأَتَى بِهِ الَّذِي ضَمِنَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَدَفَعَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ فِي السِّجْنِ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا ضَمِنَهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ فِي السِّجْنِ يَبْرَأُ وَإِنْ كَانَ ضَمِنَهُ فِي السِّجْنِ ثُمَّ خُلِّيَ عَنْهُ ثُمَّ حُبِسَ ثَانِيًا فَدَفَعَهُ إلَيْهِ قَالَ إنْ كَانَ الْحَبْسُ الثَّانِي فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ التِّجَارَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ فِي الْحَبْسِ وَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ آخَرَ مِنْ أُمُورِ السُّلْطَانِ لَا يَبْرَأُ اهـ غَايَةٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>