مُسْتَحِقِّهِ عَلَيْهِ وَبِمَوْتِ الْمَكْفُولِ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إحْضَارُهُ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ الْمَالُ بِعَدَمِ مُوَافَاتِهِ بَعْدَ مَا بَرِئَ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّالِبَ إذَا أَبْرَأَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَلَمْ يُحْضِرْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَالُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ فَكَذَا هُنَا قُلْنَا الْإِبْرَاءُ وُضِعَ لِلْفَسْخِ فَتَنْفَسِخُ بِهِ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْمَوْتُ لَمْ يُوضَعْ لِلْفَسْخِ، وَإِنَّمَا بَرِئَ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمٌ يَقَعُ ذَرِيعَةً إلَى الْخِصَامِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ فَكَانَ ضَرُورِيًّا فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَيَبْرَأُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى انْفِسَاخِهِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ، فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ مَاتَ الْكَفِيلُ فَقَدْ ذَكَرَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ وَارِثَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ إنْ دَفَعَهُ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ كَانَ الْمَالُ عَلَى الْوَارِثِ يَعْنِي مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَلَوْ مَاتَ الطَّالِبُ فَدَفَعَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ بِهِ إلَى وَارِثِ الطَّالِبِ فِي الْوَقْتِ بَرِئَ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ لَزِمَهُ الْمَالُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ فَقَالَ رَجُلٌ إنْ لَمْ أُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمِائَةَ، أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا بِأَنْ تَعَلَّقَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فَلَزِمَهُ فَقَالَ لِي عَلَيْك حَقٌّ وَلَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ مَالًا مُقَدَّرًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ دَعْهُ فَأَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ فَادَّعَى الْمُدَّعِي وَأَثْبَتَهَا لَزِمَ الْكَفِيلَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا، ثُمَّ ادَّعَى وَبَيَّنَهَا لَا تَلْزَمُهُ وَلَهُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ أَنَّ الْكَفِيلَ عَلَّقَ مَالًا مُطْلَقًا بِخَطَرٍ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ الَّتِي لَك عَلَيْهِ فَكَانَتْ هَذِهِ رِشْوَةً الْتَزَمَهَا الْكَفِيلُ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِهِ، فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ، وَإِنْ بَيَّنَهَا الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ عَدَمَ النِّسْبَةِ إلَيْهِ هُوَ الَّذِي، أَوْجَبَ الْبُطْلَانَ، وَالثَّانِي مَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ فَلَمْ يَجِبْ إحْضَارُهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَيْضًا لِعَدَمِ صِحَّةِ الدَّعْوَى وَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِذَا بَطَلَ الْأَصْلُ بَطَلَ الْفَرْعُ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُوجِبُ أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ إذَا بَيَّنَ الْمَالَ عِنْدَ الدَّعْوَى وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهَا فَتَصِحُّ أَمَّا إذَا بَيَّنَ الْمَالَ عِنْدَ الدَّعْوَى فَلِأَنَّ الْمَالَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْإِرْسَالِ، وَالْمُرَادُ مَا عَلَيْهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْإِبْهَامِ فِي الدَّعْوَى فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيُجْمِلُونَهَا إجْمَالًا وَلَا يُبَيِّنُونَهَا إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي دَفْعًا لَحِيلَ الْخُصُومِ وَصَوْنًا لِكَلَامِهِمْ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَصَحَّتْ الدَّعْوَى، وَالْمُلَازَمَةُ عَلَى احْتِمَالِ الْبَيَانِ مِنْ جِهَتِهِ فَإِذَا بَيَّنَ انْصَرَفَ بَيَانُهُ إلَى ابْتِدَاءِ الدَّعْوَى فَظَهَرَ بِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ قَدْ صَحَّتْ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ الْتِزَامًا لِمَا عَلَيْهِ تَصِحُّ، وَإِلَّا فَلَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ يَوْمَ كَذَا فَعَلَيْهِ مَا لِلطَّالِبِ عَلَى فُلَانٍ آخَرَ جَازَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ وَفِي الْمُحِيطِ جَعَلَ الْخِلَافَ بِالْعَكْسِ وَجَعَلَ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فِي حَدٍّ وَقَوَدٍ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَفِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْحُدُودِ لَا يُجْبَرُ وَلَوْ سَمَحَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لَهُمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمِائَةَ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ رَجُلٌ قَدَّمَ رَجُلًا إلَى الْقَاضِي وَادَّعَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ وَبَيَّنَهَا بِأَنْ قَالَ رُكْنِيَّةٌ أَوْ نَيْسَابُورِيَّةٌ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا بِأَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ مِائَةً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ادَّعَى حَقًّا مُطْلَقًا أَوْ مَالًا مُطْلَقًا وَفِي جَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ وَبَيَّنَهَا أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا أَيْ وَبَيَّنَ مِقْدَارَ الْمُدَّعَى بِهِ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْمُدَّعِي بِهِ، وَكَذَا فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ اهـ.
(قَوْلُهُ بِخَطَرٍ) هُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ اهـ فَتْحٌ (قَوْلُهُ: عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِهِ) وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ اهـ.
كَمَالٌ.
(قَوْلُهُ: وَفِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْحُدُودِ لَا يُجْبَرُ) ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ مِنْ شَرْحِ كِتَابِ الْكَافِي أَنَّ الْكَفَالَةَ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ السَّرِقَةِ وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ تَصِحُّ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْجَبْرِ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِي الْحُدُودِ لَا يُجْبَرُ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي الْقِصَاصِ لَا يُجْبَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ يُجْبَرُ وَقَالَ فِي الشَّامِلِ فِي قِسْمِ الْمَبْسُوطِ وَفِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ الْحَدِّ وَقَالَ فِي الشَّامِلِ أَيْضًا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ مِنْ قِسْمِ الْمَبْسُوطِ لَا تَجُوزُ كَفَالَةٌ فِي قِصَاصٍ وَحَدٍّ وَيَقُولُ الْقَاضِي لِمُدَّعِي الْقَذْفِ الْزَمْهُ إلَى قِيَامِي إنْ كَانَتْ بَيِّنَتُك حَاضِرَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُ كَفِيلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ قَالَ وَالْخِلَافُ فِي أَمْرِ الْقَاضِي بِإِعْطَائِهِ لَا فِي الصِّحَّةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَفَلَ إنْسَانٌ صَحَّ وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِهِمْ إذَا بَذَلَهَا الْمَطْلُوبُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ هَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْكَفِيلِ إذَا طَلَبَ الْخَصْمُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُ الْقَاضِي مِنْهُ كَفِيلًا، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ يَسْتَوْفِيَ كَذَا ذُكِرَ فِي التُّحْفَةِ ثُمَّ لَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي فَيَشْهَدُ أَنَّهُ زَنَى أَوْ قَتَلَ فَيَحْبِسُهُ الْقَاضِي حِينَئِذٍ لِثُبُوتِ التُّهْمَةِ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ مِنْ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ الْعُدُولُ اهـ.
غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَلَوْ سَمَحَتْ) أَيْ لَوْ تَبَرَّعَ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ وَسَامَحَ فِي ذَلِكَ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ وَبَذَلَ الْكَفِيلُ بِنَفْسِهِ فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ النَّفْسِ وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ وَاجِبٌ اهـ.
غَايَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute