شُرِعَتْ لِتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصِيلِ هُنَا فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ كَمَا فِي دَعْوَى الْمَالِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّهَا مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكَفَالَةُ شُرِعَتْ وَثِيقَةً لِصَاحِبِ الْحَقِّ كَيْ لَا يَفُوتَ حَقُّهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْهُ وَبِخِلَافِ نَفْسِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ بِهِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ فَلَا يُشْرَعُ وَلَهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ مُطْلَقًا» وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ لِلِاسْتِيثَاقِ وَمَبْنَاهُمَا عَلَى الدَّرْءِ فَالْإِجْبَارُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِيهِمَا يُفْضِي إلَى فَسَادِ الْوَضْعِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَوْ أَعْطَى بِنَفْسِهِ الْكَفِيلَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فِيهِمَا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْحُدُودِ. وَأَلْحَقَ
التُّمُرْتَاشِيُّ حَدَّ السَّرِقَةِ بِهِمَا فِي حَقِّ جَوَازِ التَّكْفِيلِ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي الْإِجْبَارِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا وَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِيهِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ فِيهِمَا، وَالْمُدَّعِي يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ شُهُودِهِ وَمَطْلُوبِهِ فَرُبَّمَا يُخْفِي الْمَطْلُوبُ نَفْسَهُ فَيَسْتَوْثِقُ بِكَفِيلٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ بِسَبَبِ الدَّعْوَى؛ إذْ لَا يُسْمَعُ دَعْوَى أَحَدٍ فِيهَا، فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهَا أَصْلًا وَإِنْ طَابَتْ بِهَا نَفْسُهُ وَسَمَحَتْ فَإِذَا لَمْ يَكْفُلْ عِنْدَهُ يُلَازِمُهُ إلَى أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَبِهَا، وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ وَلَيْسَ تَفْسِيرُ الْجَبْرِ عِنْدَهُمَا هُنَا أَنْ يُجْبَرَ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ لَكِنْ يَأْمُرُهُ بِالْمُلَازَمَةِ وَيَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ، وَإِذَا أَرَادَ دُخُولَ دَارِهِ اسْتَأْذَنَهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ دَخَلَ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مَنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ وَأَجْلَسَهُ فِي بَابِ الدَّارِ كَيْ لَا يَغِيبَ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يُحْبَسُ فِيهِمَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ، أَوْ عَدْلٌ) أَيْ لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ، أَوْ وَاحِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي بِالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ هُنَا لِتُهْمَةِ الْفَسَادِ وَشَهَادَةُ الْمَسْتُورَيْنِ تَصْلُحُ لِلْحُكْمِ بِهِ فَتَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ التُّهْمَةِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الدِّيَانَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ فَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ التُّهْمَةُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ أَصْلُ الْحَقِّ، وَالْحَبْسُ بِتُهْمَةِ الْفَسَادِ مَشْرُوعٌ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حَبَسَ رَجُلًا بِتُهْمَةٍ» بِخِلَافِ دَعْوَى الْأَمْوَالِ حَيْثُ لَا يُحْبَسُ فِيهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ؛ لِأَنَّهُ نِهَايَةُ الْعُقُوبَةِ فِيهِ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ كَالْحَدِّ نَفْسِهِ وَعَنْهُمَا أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ أَيْضًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ بِالْكَفَالَةِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبِالْمَالِ وَلَوْ مَجْهُولًا إذَا كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا بِكَفَلْتُ عَنْهُ بِأَلْفٍ وَبِمَالِك عَلَيْهِ وَبِمَا يُدْرِكُك فِي هَذَا الْبَيْعِ وَمَا بَايَعْت فُلَانًا فَعَلَيَّ وَمَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ فَعَلَيَّ وَمَا غَصَبَك فُلَانٌ فَعَلَيَّ) أَيْ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ وَلَوْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَجْهُولًا بِقَوْلِهِ كَفَلْت؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مَشْرُوعَةٌ فِيهِ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: وَلَهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ مُطْلَقًا») رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو اهـ.
وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ فِي حَدٍّ مُطْلَقًا يَعْنِي لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَدٍّ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَبَيْنَ حَدٍّ هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ وَهَذَا مِنْ كَلَامِ شُرَيْحٍ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي عَنْ شُرَيْحٍ وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا فِي رَفْعِهِ نَظَرٌ اهـ.
غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَمَبْنَاهُمَا) أَيْ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ اهـ.
(قَوْلُهُ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ) أَيْ إذَا سَمَحَتْ بِهِ نَفْسُهُ اهـ.
(قَوْلُهُ: فَإِذَا لَمْ يَكْفُلْ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اهـ (قَوْلُهُ: لَكِنْ يَأْمُرُهُ بِالْمُلَازَمَةِ إلَخْ) لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُلَازَمَةِ الْمَنْعُ مِنْ الذَّهَابِ لِأَنَّهُ حَبْسٌ لَكِنْ يَذْهَبُ الطَّالِبُ مَعَ الْمَطْلُوبِ فَيَدُورُ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ كَيْ لَا يَتَغَيَّبَ اهـ.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ دَعْوَى الْأَمْوَالِ حَيْثُ لَا يُحْبَسُ إلَخْ) وَالْحَبْسُ بِالتُّهْمَةِ ذَكَرُوهُ أَيْضًا فِي أَوَّلِ بَابِ الْحُدُودِ قَالَ الْكَمَالُ فِي بَابِ الْحُدُودِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَقَدْ حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ «أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي غِفَارٍ حَتَّى نَزَلَا بضجعان مِنْ مِيَاهِ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَهَا نَاسٌ مِنْ غَطَفَانَ مَعَهُمْ ظَهْرٌ لَهُمْ فَأَصْبَحَ الْغَطَفَانِيُّونَ وَقَدْ فَقَدُوا بَعِيرَيْنِ مِنْ إبِلِهِمْ فَاتَّهَمُوا الْغِفَارِيَّيْنِ فَأَتَوْا بِهِمَا إلَى رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَبَسَ أَحَدَ الْغِفَارِيَّيْنِ وَقَالَ لِلْآخَرِ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ فَلَمْ يَكُ إلَّا يَسِيرٌ حَتَّى جَاءَ بِهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَحَدِ الْغِفَارِيَّيْنِ اسْتَغْفِرْ لِي فَقَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَك وَقَتَلَك فِي سَبِيلِهِ قَالَ فَقُتِلَ يَوْمَ الْقَيِّمَةِ» اهـ.
مَا قَالَ الْكَمَالُ (فَرْعٌ يُحْفَظُ) الْكَفِيلُ بِأَمْرِ الْأَصِيلِ إذَا أَدَّى الْمَالَ إلَى الدَّائِنِ بَعْدَ مَا أَدَّى الْأَصِيلُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ حُكْمِيٌّ، فَلَا يَفْتَرِقُ فِيهِ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ ضِمْنًا قَالَهُ فِي الْقُنْيَةِ قَبْلَ بَابِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ اهـ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نِهَايَةُ الْعُقُوبَةِ فِيهِ) وَفِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالضَّرْبُ فَجَازَ الْحَبْسُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ اهـ. غَايَةٌ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ إلَخْ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِذِكْرِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَالْمَكْفُولِ عَنْهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْهُولًا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ مَا ذَابَ لَك عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَهُوَ عَلَيَّ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ مَا ذَابَ عَلَيْك لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَهُوَ عَلَيَّ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ اهـ.
أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ أَيْضًا مَا نَصُّهُ قَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ مَا بَايَعْت فُلَانًا فَهُوَ عَلَيَّ جَازَ ذَلِكَ وَلَزِمَهُ كُلُّهُ قَلِيلًا بَايَعَهُ أَوْ كَثِيرًا مَرَّةً أَوْ مِرَارًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ إلَّا جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا بَايَعَ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ وَالْمَكْفُولُ لَهُ مَعْلُومًا اهـ.