للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهِ فَيُوهِمُ أَنَّهُ إنَّمَا يُمْضِيه إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ.

وَقَالُوا شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى لَوْ قَضَى فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ، وَلَا يُمْضِيه الثَّانِي ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمُحِيطِ، وَقَالَ فِيهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، فَلَوْ قَضَى فِي الْمُجْتَهِد فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَإٍ بِيَقِينٍ، وَفِي أُخْرَى لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ عِنْدَهُ وَقَدْ نَهَى عَنْ اتِّبَاعِ هَوَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: ٤٨] وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَقِيلَ الْفَتْوَى عَلَى النَّفَاذِ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي، ثُمَّ شَرَطَ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لَهَا نَقَضَهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ غَيْرُ سَائِغٍ فَيَنْتَقِضُ بِهِ وَقَيَّدَ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ احْتِرَازًا عَنْ الْغَرِيبِ وَالْمُرَادُ بِالْإِجْمَاعِ مَا لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الَّذِي قَضَى بِهِ الْأَوَّلُ لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِيهِ اخْتِلَافًا يَسْتَنِدُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِنَقْضٍ بَعْدَ مَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ مِثَالُهُ إذَا رَفَعَ إلَى حَاكِمٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ الْمُضَافِ فَأَبْطَلَ الْيَمِينَ نَفَذَ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِتَزَوُّجِهَا بَعْدَهُ.

وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ أَبْطَلْت الْيَمِينَ وَنَقَضْت هَذَا الطَّلَاقَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رَاوِيَةٍ لَا يَنْفُذُ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ لَا يُوجَدُ قَبْلَ الْقَضَاءِ، فَإِذَا قَضَى حِينَئِذٍ وُجِدَ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ وَالِاجْتِهَادِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ آخَرَ يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا وَذَلِكَ مِثْلُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ وَلِلْغَائِبِ، وَقَضَاءُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَشَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَقَضَاءُ الْفَاسِقِ وَشَهَادَتُهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ حَتَّى لَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ أَوْ قَضَى الْفَاسِقُ أَوْ الْمَحْدُودُ فِي الْأَصَحِّ لَا يَنْفُذُ إلَّا إذَا رَفَعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ فَقَضَى لِصِحَّةِ حُكْمِهِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ لَوْ فَسَخَهُ انْفَسَخَ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ فَقَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يُوجَدْ مَحَلُّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَلَا يَنْفُذُ بِتَنْفِيذِ قَاضٍ آخَرَ، وَلَوْ رَفَعَ إلَى حَاكِمٍ وَنَفَّذَهُ لِأَنَّ قَضَاءَهُ وَقَعَ بَاطِلًا لِمُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ، فَلَا يَعُودُ صَحِيحًا بِالتَّنْفِيذِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ أَوْ بِالْقِصَاصِ بِتَعْيِينِ الْوَلِيِّ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَيَمِينَهُ أَوْ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ فَلَوْ قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا إلَى آخِرِهِ) وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ، فَإِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِأَحَدِهَا يُبْطِلُهُ الْقَاضِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَنَظِيرُ خِلَافِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ بِالْقَسَامَةِ أَعْنِي يَحْلِفُ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلِّهِ وَكَانَ ثَمَّةَ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ فَحَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي، وَهَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» اهـ قَالَ فِي الْمُحِيطِ وَالْقَتْلُ بِقَسَامَةٍ بِأَنْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ فَعَيَّنَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ رَجُلَيْنِ فِي الْمَحَلَّةِ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْقَوَدِ فَهَذَا الْقَضَاءُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَقْضِ بِالْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ، فَلَا يَكُونُ خِلَافُ مَالِكٍ مُعْتَبَرًا. اهـ. (قَوْلُهُ وَذَلِكَ مِثْلُ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ) قَالَ فِي الْمُحِيطِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢] الْآيَةَ.

فَاَللَّهُ تَعَالَى شَرَعَ الْفَصْلَ بِالْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ شَاذٌّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَيُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يَقْضِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ إلَّا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَفِعْلُهُ مِمَّا لَا يُؤْخَذُ بِهِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مُحْتَمَلًا فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيَجُوزُ قَضَاؤُهُ وَلَا يَنْفَسِخُ كَذَا ذَكَر الْإِمَامُ النَّاصِحِيُّ وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ هَلْ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَرْفَعُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَرْفَعُ. هَكَذَا ذَكَرَ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي يَعْنِي أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَنَّهُمْ لَا يُبَعْنَ، ثُمَّ رَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ أُرِقَّهُنَّ فَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ رَأْيُك فِي رَأْيِ عُمَرَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك وَحْدَك، ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِجَوَازِ الْبَيْعِ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ فَيُبْطِلُهُ الثَّانِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا لَمْ يَرْتَفِعْ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ كَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي فِي فَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَلَا يَفْسَخُهُ الثَّانِي وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فِي آخِرِ فُصُولِ الْإِجْمَاعِ مِنْ كِتَابِ التَّقْوِيمِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ رَوَى عَنْهُمْ جَمِيعًا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ لَمْ يَجُزْ وَذَكَرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَازِلِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ اهـ.

(قَوْلُهُ أَوْ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ) قَالَ فِي الْمُحِيطِ أَوْ قَضَى قَاضٍ بِمُتْعَةِ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ، ثُمَّ رَفَعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يُنْفِذْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَسَادِهِ وَصَحَّ رُجُوعُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا آيَةُ الطَّلَاقِ وَالْعَمَلُ بِالْمَنْسُوخِ حَرَامٌ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْمُتْعَةِ نَافِذٌ لَكِنَّ هَذَا شَاذٌّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَهَذَا فِي لَفْظِ الْمُتْعَةِ بِأَنْ قَالَ أَتَمَتَّعُ بِك إلَى أَجَلٍ فَأَمَّا إذَا قَالَ تَزَوَّجْتُك إلَى شَهْرٍ عِنْدَنَا بَطَلَ النِّكَاحُ وَعِنْدَ زُفَرَ يَصِحُّ وَيَبْطُلُ التَّوْقِيتُ فَكَانَ هَذَا مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>