الْجُمُعَةَ وَأَعَادَهَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اسْتَخْلَفَ مَعَ ذَلِكَ فَحَكَمَ الْخَلِيفَةُ فَأَجَازَهُ الْقَاضِي جَازَ إذَا كَانَ الْمُسْتَخْلَفُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ كَافِرٍ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إذَا قَضَى بِحَضْرَةِ الْقَاضِي جَازَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْإِمَامِ بِتَوْلِيَتِهِ حُضُورُ رَأْيِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ فَبَاشَرَ وَكِيلُهُ بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِغَيْبَتِهِ فَأَجَازَهُ، وَلَوْ فَوَّضَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بِأَنْ قَالَ لَهُ وَلِّ مَنْ شِئْت لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ مَنْ شَاءَ فَيَصِيرَ نَائِبًا عَنْ الْإِمَامِ فِي التَّوْلِيَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ عَزْلَهُ كَالْوَكِيلِ إذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ بِالتَّوْكِيلِ فَوَكَّلَ صَارَ وَكِيلًا عَنْ الْمُوَكِّلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ عَزْلَهُ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَيَنْعَزِلَانِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ حَيْثُ يَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إلَى غَيْرِهِ وَيَمْلِكُ التَّوْكِيلَ وَالْعَزْلَ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ حُكْمِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَدْ يَعْجِزُ الْوَصِيُّ عَنْ الْجَرْي عَلَى مُوجِبِ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْمُوصِي فَيَكُونُ الْمُوصِي رَاضِيًا بِاسْتِعَانَتِهِ بِغَيْرِهِ دَلَالَةً كَيْ لَا تَفُوتَ مَصَالِحُهُ بِخِلَافِ الْإِمَامِ وَالْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُمَا يَتَصَرَّفَانِ بِأَنْفُسِهِمَا، فَلَا تَفُوتُهُمَا الْمَصَالِحُ، وَلَوْ فَوَّضَ إلَيْهِ الْعَزْلَ بِأَنْ قَالَ اسْتَبْدِلْ مَنْ شِئْت كَانَ لَهُ الْعَزْلُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالتَّفْوِيضِ إلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْإِمَامِ، فَلَا يَمْلِكُ إلَّا مَا أَطْلَقَ لَهُ لِأَنَّ رِضَاهُ بِتَصَرُّفِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِتَوْلِيَتِهِ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْأَمَانَةِ وَالتَّصَرُّفِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمُ قَاضٍ أَمْضَاهُ إنْ لَمْ يُخَالِفْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ وَالْإِجْمَاعَ) لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِ الِاجْتِهَادَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفُذْ الْأَوَّلُ لَمَا نَفَذَ الثَّانِي أَيْضًا، وَكَذَا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى لِاحْتِمَالِ أَنْ يَجِيءَ قَاضٍ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ فَكَانَ نَافِذًا ضَرُورَةً وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا كَثُرَ اشْتِغَالُهُ قَلَّدَ الْقَضَاءَ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَاخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَضَى لِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ لَقِيَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ قَضَى عَلَيَّ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَوْ كُنْتُ أَنَا مَكَانَهُ لَقَضَيْتُ لَك فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ وَمَا يَمْنَعُك مِنْ الْقَضَاءِ قَالَ لَيْسَ هُنَا نَصٌّ وَالرَّأْيُ مُشْتَرَكٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِقَضِيَّةٍ، ثُمَّ قَضَى فِيهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ تِلْكَ كَمَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ كَمَا نَقْضِي، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي، ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ قَيَّدَهُ بِكَوْنِ الثَّانِي يَرَى خِلَافَ مَا حَكَمَ بِهِ الْأَوَّلُ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ التَّقْيِيدُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمُ قَاضٍ أَمْضَاهُ) الْمُرَادُ بِالْإِمْضَاءِ التَّنْفِيذُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ إنْ لَمْ يُخَالِفْ الْكِتَابَ) وَالْمُرَادُ مِنْ خِلَافِ الْكِتَابِ خِلَافُ نَصِّ الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ فِي تَأْوِيلِهِ السَّلَفُ مِثْلُ قَوْلِهِ {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: ٢٢] وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ الْأَبِ وَلَا جَارِيَتَهُ وَلَا يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا فَلَوْ حَكَمَ الْقَاضِي بِجَوَازِ نِكَاحِ امْرَأَةِ الْأَبِ كَانَ لِلْقَاضِي الثَّانِي فَسْخُهُ اهـ غَايَةٌ، وَكَذَا إذَا قَضَى بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَا يَصِحُّ وَيُبْطِلُهُ الْقَاضِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: ١٢١]. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ فَلَا يَنْتَقِضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ) حَتَّى لَوْ قَضَى بِإِبْطَالِهِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَالثَّالِثُ يُنْفِذُ قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَيُبْطِلُ قَضَاءَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ وَالْقَضَاءُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ الْقَضَاءُ فِي الثَّانِي مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. اهـ. مُحِيطٌ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْأَصْلُ هُنَا مَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ يَنْفُذُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ رَأْيَهُ حَسَبَ نُفُوذِهِ عَلَى مَنْ وَافَقَ رَأْيَهُ فَإِذْنُ هَذَا قَضَاءٌ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى نُفُوذِهِ اهـ.
(فَرْعٌ) ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ نَصُّهُ رَجُلٌ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ ابْنَتَهَا فَخَاصَمَتْهُ زَوْجَتُهُ فِي ذَلِكَ إلَى قَاضٍ لَا يَرَى حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَقَضَى بِالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا لَيْسَ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ، بَلْ يُنْفِذُهُ نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا فَصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا، وَالْعُلَمَاءُ وَالْأَحَادِيثُ فِيهَا مُخْتَلِفَةٌ فَيَنْفُذُ قَضَاءُ الْأَوَّلِ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ هَلْ يَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْمُقَامُ مَعَهَا؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الزَّوْجُ جَاهِلًا حَلَّ لَهُ الْمُقَامُ مَعَهَا وَإِنْ قَضَى بِتَحْرِيمِهَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْمُقَامُ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ مَتَى كَانَ جَاهِلًا يَتْبَعُ رَأْيَ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ عَالِمًا يُنْظَرُ إنْ قَضَى الْقَاضِي بِتَحْرِيمِهَا وَالْمَقْضِيُّ لَهُ يَرَى حِلَّهَا نَفَذَ الْقَضَاءُ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ الْمُقَامُ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَقْضِيٌّ عَلَيْهِ فَيَتْبَعُ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ رَأْيَ الْقَاضِي، وَإِنْ قَضَى لَهُ بِحِلِّهَا وَالْمَقْضِيُّ لَهُ يَرَى حُرْمَتَهَا هَلْ يَنْفُذُ؟ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقَضَاءَ إذَا كَانَ بِخِلَافِ رَأْيِ الْمَقْضِيِّ لَهُ هَلْ يَنْفُذُ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ وَيَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ الْمَقَامُ مَعَهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَنْفُذُ وَيَتْبَعُ رَأْيَ الْقَاضِي حَتَّى يَحِلَّ لَهُ الْمُقَامُ مَعَهَا.
ذَكَرَ هَذَا الْخِلَافَ فِي النَّوَادِرِ وَذَكَرَ فِي اسْتِحْسَانِ الْأَصْلِ وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا طَلَّقَهَا بِلَفْظَةِ الْكِنَايَةِ فَرَفَعَ إلَى قَاضٍ، وَهُوَ يَرَى الْكِنَايَةَ رَوَاجِعَ، وَقَدْ قَضَى لَهُ بِالرَّجْعَةِ حَلَّ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ خِلَافَ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَضَاءَ فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ فَتْوَى؛ لِأَنَّهُ إلْزَامٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُخَيَّرُ فِيهِ إنْ شَاءَ رَاجَعَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُرَاجِعْ، وَبِالْفَتْوَى لَا يَصِيرُ الْحَلَالُ حَرَامًا وَالْبَائِنُ رَجْعِيًّا كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّ هَذَا عَمْدًا وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ وَالْوَلِيُّ يَعْرِفُ أَنَّ الشُّهُودَ شُهُودُ زُورٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَكَذَا هَذَا لَهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ إلْزَامٌ فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ ثُبُوتَ اعْتِقَادِ الْحِلِّ وَالرَّجْعَةِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ جَاهِلًا يَنْفُذُ فَكَذَا إذَا كَانَ عَالِمًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُلْزِمٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً بِخِلَافِ الْفَتْوَى لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ لَا مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِيفَاءُ اهـ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute