كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ كَانَ الْعَاقِدُ عَامِلًا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ إنْ كَانَ هُوَ وَصِيَّ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ هُوَ الْعَاقِدَ رَجَعَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي لِمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ قَالَ قَاضٍ عَدْلٌ عَالِمٌ قَضَيْتُ عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ أَوْ بِالْقَطْعِ أَوْ بِالضَّرْبِ فَافْعَلْهُ مَا وَسِعَك فِعْلُهُ) قَيَّدَهُ هُنَا بِكَوْنِهِ عَدْلًا عَالِمًا، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِهِمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِنَّمَا يَسَعُهُ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩] وَفِي تَصْدِيقِهِ طَاعَةٌ وَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يُوَلَّى فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إلَّا قَاضٍ وَاحِدٌ فِي الْأَعْصَارِ كُلِّهَا، وَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَحْدَهُ لَوُلِّيَ فِي مَكَان قَاضِيَانِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ ثُمَّ رَجَعَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا فَقَالَ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ الْحُجَّةَ أَوْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ مَعَ الْقَاضِي عَدْلٌ وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِفَسَادِ أَكْثَرِ قُضَاةِ زَمَانِنَا، وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ ولِأَنَّ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ رُتْبَةُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَغَيْرُهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ إلَّا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِضَرُورَةِ إحْيَاءِ الْحُقُوقِ وَلِأَنَّ الْخِيَانَةَ فِي مِثْلِهِ قَلَّمَا تَقَعُ، وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْعِدَامِ تُهْمَةِ الْخِيَانَةِ وَاحْتِمَالِ الْخَطَأِ لِأَنَّهُ لِعَدَالَتِهِ يُؤْمَنُ مِنْ الْمَيْلِ بِالرِّشْوَةِ وَلِفِقْهِهِ يُؤْمَنُ مِنْ الْغَلَطِ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا يَسْتَفْسِرُ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ قَدْ يَظُنُّ غَيْرَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا فَإِنْ أَحْسَنَ بِأَنْ ذَكَرَ شَرَائِطَهُ مِثْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِحَدِّ الزِّنَا مَثَلًا بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ فَيَأْتِي بِشَرَائِطِهِ عِنْدَ التَّفْسِيرِ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ؛ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ تَمْنَعُهُ عَنْ الْكَذِبِ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ بِأَنْ أَخَلَّ فِي شَرَائِطِهِ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ أَوْ التَّكْرَارِ فِي الْإِقْرَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَكَذَلِكَ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ الْحُجَّةَ وَالْمُصَنِّفُ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ أَوْ الْخِيَانَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَبَأِ الْفَاسِقِ {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: ٦]، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ، فَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى الْخَصْمِ وَالْقَاضِي لَيْسَ بِخَصْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ أَمِينٌ، وَلَوْ صَارَ خَصْمًا لَمَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ.
قَالَ (وَإِنْ قَالَ قَاضٍ عُزِلَ لِرَجُلٍ أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفًا وَدَفَعْتُهُ إلَى زَيْدٍ قَضَيْتُ بِهِ عَلَيْك فَقَالَ الرَّجُلُ أَخَذْتَهُ ظُلْمًا فَالْقَوْلُ لِلْقَاضِي) وَكَذَا لَوْ قَالَ قَضَيْتُ بِقَطْعِ يَدِك فِي حَقٍّ إذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ يَدَهُ وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ مَالُهُ مُقِرًّا أَنَّهُ فَعَلَهُ وَهُوَ قَاضٍ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ لَمَّا أَقَرَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ صَارَ مُعْتَرِفًا بِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لِلْقَاضِي؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي عَلَى سَبِيلِ الْقَضَاءِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ بِحَالٍ فَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي فِي ذَلِكَ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَالِ قَضَائِهِ بِتَصَادُقِهِمَا، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ أَقَرَّ الْآخِذُ وَالْقَاطِعُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي حُجَّةٌ وَدَفْعُهُ صَحِيحٌ فَصَارَ إقْرَارُهُ بِهِ كَفِعْلِهِ مُعَايِنًا.
وَلَوْ زَعَمَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ وَالْمَأْخُوذُ مَالُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا يَوْمئِذٍ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ كَانَ الْقَوْلُ لِلْقَاضِي أَيْضًا لِأَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ طَلَّقْتُ أَوْ أَعْتَقْتُ وَأَنَا مَجْنُونٌ وَالْجُنُونُ كَانَ مَعْهُودًا مِنْهُ، وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إذَا زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ الْقَاضِيَ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَزْلِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِهِ وَمَنْ ادَّعَى تَارِيخًا سَابِقًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَتَى وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي الْإِسْنَادِ يُحَكَّمُ الْحَالُ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ وَهُوَ لَوْ فَعَلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْإِسْنَادِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ إلَّا بِحُجَّةٍ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْإِسْنَادُ بِتَصَادُقِهِمَا.
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ عَلِيٍّ الْبَزْدَوِيِّ وَالصَّدْرِ الشَّهِيدِ، وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ قَطَعْتُ يَدَك وَأَنَا عَبْدٌ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ قَطَعْتَهَا وَأَنْتَ حُرٌّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَبْدِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِعَبْدٍ قَدْ أَعْتَقَهُ أَخَذْتُ مِنْك غَلَّةَ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَأَنْتَ عَبْدٌ، وَقَالَ الْمُعْتَقُ أَخَذْتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى، وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا قَالَ بِعْتُ وَسَلَّمْتُ قَبْلَ الْعَزْلِ، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ بَعْدَ الْعَزْلِ كَانَ الْقَوْلُ لِلْوَكِيلِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكًا، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ فِيهِ فَيَصِيرُ مُدَّعِيًا، وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْغَلَّةِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْغَلَّةِ الْقَائِمَةِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ وَبِالْإِضَافَةِ يُدَّعَى عَلَيْهِ التَّمْلِيكُ، وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي يَضْمَنَانِ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي قَالَ الْمُصَنِّفُ قَالُوا وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِالْمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا أَيْضًا يُرِيدُ بِالْمِائَةِ مَا ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي وَفَرْضُهُ مِائَةٌ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ أَعْنِي جَوَازَ أَنْ يُقَالَ، وَأَمَّا الْوَاقِعُ مِنْ الْقَوْلِ بِالرُّجُوعِ بِمَا ضَمِنَ فَفِيهِ خِلَافٌ قِيلَ نَعَمْ وَقَالَ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ السُّرْخَكَتِيُّ لَا يَأْخُذُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ إنَّمَا ضَمِنَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى غَيْرِهِ وَفِي الْكَاكِيِّ الْأَصَحُّ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ قَضَى ذَلِكَ، وَهُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّصْحِيحِ كَمَا سَمِعْت اهـ. (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ هُوَ الْعَاقِدَ رَجَعَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَارِثِ إذَا كَانَ أَهْلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا نَصَّبَ الْقَاضِي عَنْهُ مَنْ يَقْضِي دَيْنَهُ اهـ كَيْ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا يُسْتَفْسَرُ) أَيْ عَنْ قَضَائِهِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا فَشَمِلَ صُورَتَيْنِ وَالْأَقْسَامُ عَلَى هَذَا أَرْبَعَةٌ: عَدْلٌ عَالِمٌ لَا يُسْتَفْسَرُ. عَدْلٌ جَاهِلٌ يُسْتَفْسَرُ. فَاسِقٌ عَالِمٌ. فَاسِقٌ جَاهِلٌ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا إلَّا إنْ عَايَنَ الْحُجَّةَ اهـ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ أَقَرَّ الْآخِذُ وَالْقَاطِعُ فِي هَذَا الْفَصْلِ) أَرَادَ بِهَذَا الْفَصْلِ مَا إذَا زَعَمَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَوْ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ أَنَّ الْأَخْذَ أَوْ الْقَطْعَ وَقَعَ قَبْلَ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ. اهـ. غَايَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute