حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ نَاطِقَةٌ بِالِاسْتِشْهَادِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهَا غَيْرُهَا لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ تَوْكِيدٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْيَمِينِ مُلَاحَظًا فِيهَا وَامْتِنَاعُهُ عَنْ الْكَذِبِ بِهَذَا اللَّفْظِ أَشَدُّ إذْ لَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَوَامِرِ حَيْثُ لَا يُرَاعَى فِيهِ اللَّفْظُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْأَمْرُ بَلْ يَتَأَتَّى بِكُلِّ لَفْظٍ يُعْطِي ذَلِكَ الْمَعْنَى كَالتَّكْبِيرِ، وَالْأَيْمَانِ حَتَّى صَحَّ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ الْأَيْمَانُ يَجُوزُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَلِأَنَّ فِي الشَّهَادَةِ إلْزَامَ الْحَاكِمِ الْحُكْمَ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى جَمِيعُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَالْعِرَاقِيُّونَ لَا يَشْتَرِطُونَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَيَجْعَلُونَهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَمَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْعَدَالَةُ هِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِلصِّدْقِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] وَقَالَ تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: ٢٨٢]، وَالْعَدْلُ هُوَ الْمَرَضِيُّ وَلِأَنَّ مَنْ يُبَاشِرُ غَيْرَ الْكَذِبِ مِنْ الْمَعَاصِي قَدْ يُبَاشِرُ الْكَذِبَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، وَالْكَذِبَ وَبِالْعَدَالَةِ تَتَرَجَّحُ جِهَةُ الصِّدْقِ وَهِيَ الِانْزِجَارُ عَمَّا يُعْتَقَدُ حُرْمَتُهُ، وَالْحُجَّةُ هُوَ الْخَبَرُ الصِّدْقُ وَلَا يَلْزَمُ حُجَّةٌ دُونَهَا وَهِيَ شَرْطُ لُزُومِ الْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ لَا شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ إذْ الْفَاسِقُ أَهْلٌ لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَالسَّلْطَنَةِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ فِسْقَهُ أَوْجَبَ التَّوَقُّفَ فِي خَبَرِهِ لِتُهْمَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: ٦] أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ، وَالتَّثَبُّتِ لَا بِالرَّدِّ حَتَّى إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي الشَّهَادَةِ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لِوَجَاهَتِهِ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ عَلَى اسْتِئْجَارِهِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَلِمُرُوءَتِهِ يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ إكْرَامًا لَهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْحُقُوقَ بِهِمْ» وَفِي حَقِّ الْفَاسِقِ أَمَرْنَا بِخِلَافِهِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا لَقِيت الْفَاسِقَ فَالْقَهُ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ» وَمَنْ يَكُونُ مُعْلِنًا بِالْفِسْقِ فَلَا مُرُوءَةَ لَهُ شَرْعًا فَلَا يَلْزَمُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ حَتْمًا عَلَى وَجْهٍ لَا بُدَّ مِنْهُ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ سِرًّا) وَعَلَانِيَةً فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقْتَصِرُ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَةِ الْمُسْلِمِ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ الشَّاهِدِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ فِيهِ، فَإِنْ طَعَنَ فِيهِ سَأَلَ عَنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا إلَّا فِي الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ فِيهِ الْخَصْمُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ» وَمِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: ١٤٣] يَشْهَدُ لَهُ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الِانْزِجَارُ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ يَمْنَعَانِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْقَبِيحِ فَاكْتَفَى بِالظَّاهِرِ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ اسْتِحْقَاقٍ كَالشَّفِيعِ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِظَاهِرِ يَدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُنَازِعٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى الْقَطْعِ لِخَفَائِهَا وَلَوْ زَكَّى فَالْمُزَكِّي يُخْبِرُ عَنْ عَدَالَتِهِ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ حَالِهِ؛ لِأَنَّ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَالَتِهِ انْزِجَارُهُ عَنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ وَاجْتِهَادُهُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَهِيَ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا وَلَيْسَتْ بِقَطْعِيَّةٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ السُّؤَالِ إلَّا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطْعَنُهُ كَاذِبًا ظَاهِرًا فَتَقَابَلَ الظَّاهِرَانِ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالِاسْتِقْصَاءِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُمَا يُدْرَآنِ بِالشُّبْهَةِ وَيُحْتَاطُ لِإِسْقَاطِهِمَا فَيُسْتَقْصَى فِيهِمَا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ طَعْنِ خَصْمٍ رَجَاءَ أَنْ يَسْقُطَا
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ يَنْبَنِي عَلَى الْحُجَّةِ وَلَا تَقَعُ الْحُجَّةُ إلَّا بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْعَدَالَةُ قَبْلَ السُّؤَالِ ثَابِتَةٌ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَا تُقْبَلُ إلَخْ) وَثَالِثٌ وَهُوَ التَّفْسِيرُ حَتَّى لَوْ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ أَوْ مِثْلَ شَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ وَكَذَا مِثْلُ شَهَادَةِ صَاحِبِهِ عِنْدَ الْخَصَّافِ لِلِاحْتِمَالِ. اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ: وَالْعَدَالَةُ هِيَ الْمُعِينَةُ لِلصِّدْقِ)، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ إخْبَارٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَلَى السَّوَاءِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْمَفْهُومِ فَبِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ صِدْقًا حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ: إذْ الْفَاسِقُ أَهْلٌ لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَالسَّلْطَنَةِ) قَالَ الْكَمَالُ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَنْفُذُ عِنْدَنَا وَيَكُونُ الْقَاضِي عَاصِيًا. اهـ. (قَوْلُهُ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ إلَخْ) كَمُبَاشِرِي السُّلْطَانِ وَالْمَكَسَةِ وَغَيْرِهِمْ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ مُكْفَهِرٌّ) أَيْ شَدِيدُ الْعُبُوسَةِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِهِمَا اهـ غَايَةٌ (قَوْلُهُ: إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ) أَيْ وَيُسْتَقْصَى دَرْءُ الْحَدِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ». اهـ. (قَوْلُهُ فَاكْتَفَى بِالظَّاهِرِ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ إلَخْ) وَلِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ الشُّهُودِ بَلْ اكْتَفَوْا عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَنْهُمْ ابْنُ شُبْرُمَةَ فَدَلَّ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَةِ الْإِسْلَامِ كَذَا فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: كَالشَّفِيعِ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ إلَخْ) أَمَّا لَوْ جَحَدَ الْمُشْتَرِي مِلْكِيَّتَهُ لِلدَّارِ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا الشَّفِيعُ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ. اهـ. (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطْعَنُهُ كَاذِبًا ظَاهِرًا فَتَقَابَلَ الظَّاهِرَانِ) أَيْ وَهُمَا كَوْنُ الشَّاهِدِ الْمُسْلِمِ لَا يَكْذِبُ ظَاهِرًا فَكَذَلِكَ الْخَصْمُ مُسْلِمٌ لَا يَكْذِبُ فِي طَعْنِهِ ظَاهِرًا فَوَجَبَ السُّؤَالُ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الظَّاهِرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَهَذَا كَمُدَّعِي الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ حَيْثُ لَا يُلْزِمُهُ الْقَاضِي إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى مِلْكِ الدَّارِ فَإِذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُعْتَبَرُ لِلْإِلْزَامِ اهـ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute