بِالظَّاهِرِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَوَجَبَ التَّعَرُّفُ عَنْهَا صِيَانَةً لِقَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ وَإِسْنَادِ الْحُكْمِ إلَى الْبُرْهَانِ وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَهُمْ نَاسٌ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخَيْرِ، وَالصَّلَاحِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي أَنَا فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ وَيَشْهَدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ»، وَالْآيَةُ الَّتِي تَلَوْنَا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ وَهُمَا كَانَا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ بَعْدَمَا تَغَيَّرَ أَحْوَالُ النَّاسِ وَظَهَرَتْ الْخِيَانَاتُ، وَالْكَذِبُ فَأَفْتَى كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا شَاهَدَ فِي زَمَانِهِ، وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَكْثَرُ ثُمَّ التَّعْدِيلُ فِي السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ الْمَسْتُورَةَ وَهِيَ الرُّقْعَةُ إلَى الْمُعَدِّلِ فِيهَا اسْمُ الشَّاهِدِ وَنَسَبُهُ وَحِلْيَتُهُ وَمَسْجِدُهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ وَمُحَلَّتُهُ وَسُوقُهُ إنْ كَانَ سُوقِيًّا فَيَسْأَلُ عَنْ جِيرَانِهِ وَأَصْدِقَائِهِ، فَإِذَا عَرَفَهُمْ فَمَنْ عَرَفَهُ بِالْعَدَالَةِ يَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ فِي كِتَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ وَمَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ يَسْكُتُ وَلَا يَكْتُبُ احْتِرَازًا عَنْ الْهَتْكِ وَيَقُولُ اللَّهُ أَعْلَمُ.
إلَّا إذَا عَدَّلَهُ غَيْرُهُ وَخَافَ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ فَحِينَئِذٍ يُصَرِّحُ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ يَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ أَنَّهُ مَسْتُورٌ وَيَرُدُّ الْمُعَدِّلُ الْمَسْتُورَةَ سِرًّا كَيْ لَا يَظْهَرَ فَيُؤْذَى وَلَا بُدَّ فِي التَّعْدِيلِ فِي الْعَلَانِيَةِ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ، وَالشَّاهِدِ لِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ عَنْ الْقَاضِي لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي قَبِيلَتِهِ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي الِاسْمِ وَقَدْ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ وَحْدَهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الشَّوْكَةَ كَانَتْ لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الشَّرِّ وَيُكْتَفَى بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا لِمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ، وَالْمَحْدُودَ فِي قَذْفٍ إذَا تَابَ يَكُونُ عَدْلًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ؛ لِأَنَّ مَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَانِنَا كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ الْحُرِّيَّةَ، وَالْإِسْلَامَ وَلِهَذَا لَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ حُرِّيَّةِ الشَّاهِدِ وَإِسْلَامِهِ مَا لَمْ يُنَازِعْهُ الْخَصْمُ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ أَنَّ النَّاسَ أَحْرَارٌ إلَّا فِي الشَّهَادَةِ، وَالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَالْعَقْلِ، فَإِنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الْحُرِّيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بَلْ يَسْأَلُ عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ بِالرِّقِّ، فَإِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرٍ لَهُ أَنَّ النَّاسَ أَحْرَارٌ إلَّا فِي أَرْبَعِ مَوَاضِعَ الشَّهَادَةُ، وَالْحُدُودُ، وَالْقِصَاصُ، وَالْعَقْلُ.
فَإِنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِ الْحُرِّيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ قَالَ الْقَاذِفُ: الْمَقْذُوفُ عَبْدٌ أَوْ قَالَ الشَّاجُّ: الْمَشْجُوجُ عَبْدٌ أَوْ قَالَتْ الْعَاقِلَةُ: الْقَاتِلُ عَبْدٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ وَهِيَ نَظِيرُ الْعَدَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِيهِمْ بِكَوْنِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِيهِمْ، فَإِذَا طَعَنَ الْخَصْمُ سَأَلَ عَلَى مَا بَيَّنَّا
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَعْدِيلُ الْخَصْمِ لَا يَصِحُّ)
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ) وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي زَمَانِ أَبِي حَنِيفَةَ الصَّلَاحُ بِخِلَافِ زَمَانِهِمَا وَمَا قِيلَ إنَّهُ أَفْتَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالصَّلَاحِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وَهُمَا أَفْتَيَا بِالْقَرْنِ الرَّابِعِ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ تُوُفِّيَ فِي عَامِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فَكَيْفَ أَفْتَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ
وَقَوْلُهُ «خَيْرُ الْقُرُونِ» إلَخْ إثْبَاتُ الْخَيْرِيَّةِ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّفَاوُتِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَبَةُ الْفِسْقِ وَالظَّاهِرُ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْغَالِبِ أَقْوَى مِنْ الظَّاهِرِ الَّذِي يَثْبُتُ بِظَاهِرِ حَالِ الْإِسْلَامِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّا مَا قَطَعْنَا بِغَلَبَةِ الْفِسْقِ وَقَدْ قَطَعْنَا بِأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ الْإِسْلَامَ لَمْ يَجْتَنِبْ مَحَارِمَهُ وَلَمْ يَبْقَ مُجَرَّدُ الْتِزَامِ الْإِسْلَامِ مَظِنَّةً لِلْعَدَالَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ الثَّابِتُ بِالْغَالِبِ إلَى مُعَارِضٍ اهـ كَمَالٌ (قَوْلُهُ: وَهِيَ الرُّقْعَةُ إلَى الْمُعَدِّلِ) وَسُمِّيَتْ بِهَا لِسَتْرِهَا عَنْ نَظَرِ الْعَوَامّ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَلَا بُدَّ فِي التَّعْدِيلِ فِي الْعَلَانِيَةِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَصُورَةُ تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَجْمَعَ الْقَاضِي بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ فَيَقُولَ الْمُعَدِّلُ لِلشَّاهِدِ الَّذِي عَدَّلَهُ هَذَا الَّذِي عَدَّلْته اهـ.
(فَرْعٌ) إذَا شَهِدَ فَعُدِّلَ ثُمَّ شَهِدَ لَا يُسْتَعْدَلُ إلَّا إذَا طَالَتْ فَوَقَّتَ مُحَمَّدٌ شَهْرًا وَأَبُو يُوسُفَ سَنَةً ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ كَذَا قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَسَيَأْتِي هَذَا الْفَرْعُ اهـ (فَرْعٌ) لَوْ تَابَ الْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ تَمْضِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَنَةٌ وَلَوْ كَانَ عَدْلًا فَشَهِدَ بِالزُّورِ ثُمَّ تَابَ فَشَهِدَ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ مُدَّةٍ. اهـ. كَمَالٌ قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الشَّهَادَةِ الْفَاسِقُ إذَا تَابَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ زَمَانٌ تَظْهَرُ فِيهِ التَّوْبَةُ ثُمَّ بَعْضُهُمْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِسَنَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَالْمُعَدِّلُ وَمَنْ اُتُّهِمَ بِالْفِسْقِ لَا تَبْطُلُ عَدَالَتُهُ وَالْمُعَدِّلُ إذَا قَالَ لِشَاهِدٍ هُوَ مُتَّهَمٌ بِالْفِسْقِ لَا تَبْطُلُ عَدَالَتُهُ. اهـ. (قَوْلُهُ: لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي قَبِيلَتِهِ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي الِاسْمِ) أَيْ وَالنِّسْبَةِ وَالصِّفَةِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ هَذَا هُوَ الَّذِي عَدَّلْته قَطْعًا لِلشَّرِكَةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: وَيُكْتَفَى بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا لِمَا ذَكَرْنَا) أَوَّلُ مَنْ سُئِلَ فِي السِّرِّ الْقَاضِي شُرَيْحٌ فَقِيلَ لَهُ أَحْدَثْت يَا أَبَا أُمَيَّةَ فَقَالَ أَحْدَثْتُمْ فَأَحْدَثْنَا. اهـ. كِفَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّهُودَ يُقَابِلُونَ الْمُزَكِّيَ إذَا جَرَّحَهُمْ بِالْأَذَى وَتَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ الْعَدَاوَةُ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ) وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ الشَّاهِدُ عَدْلًا وَلَا يَكُونُ الشَّاهِدُ عَدْلًا وَلَا يَكُونُ حُرًّا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ. اهـ. غَايَةٌ
(قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَتَعْدِيلُ الْخَصْمِ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ بِلَا طَعْنٍ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْخَصْمِ يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا قَالَ فِي شُهُودِ الْمُدَّعِي هُمْ عُدُولٌ فَلَا تَقَعُ بِهِ التَّزْكِيَةُ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطِلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute