قَالَ {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: ٢٨٢]، وَالْكَافِرُ غَيْرُ مَرَضِيٌّ وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّقِيقِ تُرَدُّ لِمَا أَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ فَكَيْفَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ بِهِ حَقِيقَةُ الْكُفْرِ وَلِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِ يُؤَدِّي إلَى إلْزَامِ الْحَاكِمِ الْقَضَاءَ بِشَهَادَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُسْلِمَ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْإِجْمَاعِ كَيْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَ الْكَذِبَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْآيَاتِ عِنَادًا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ حَقٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: ١٤] فَكَانَ ذَلِكَ كَذِبًا مِنْهُمْ، وَالْكَذَّابُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا كَالْمُرْتَدِّ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَذَا عَلَى الْكَافِرِ كَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنْ اتَّفَقَتْ مِلَّتُهُمْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا شَهَادَةَ لِأَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى إلَّا الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهِمْ» وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ بِشَهَادَةِ يَهُودَ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا» وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ السَّلَفِ وقَوْله تَعَالَى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: ١٠٦] أَيْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: ١٠٤] فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ مَقْبُولَةٌ فِي وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَفِي وَصِيَّةِ الْكَافِرِ أَوْلَى ثُمَّ انْتِسَاخُهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لِأَجْلِ أَنَّ وِلَايَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ انْتَسَخَتْ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِسَاخِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ لِبَقَاءِ وِلَايَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: ٧٣]، وَالْمُرَادُ بِهِ الْوِلَايَةُ دُونَ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: ٧٢]، فَإِذَا بَقِيَتْ وِلَايَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بَقِيَتْ الشَّهَادَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ وِلَايَةٍ لِمَا فِيهَا مِنْ إلْزَامِ الْغَيْرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ فِي حَقِّهِمْ وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَقَدْ عَمِلَ بِهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، فَإِنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَمْضَى شَهَادَةَ الْكَافِرَيْنِ فِي وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لِجُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ قَالَ نَعَمْ قَالَتْ: فَإِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ أَيْضًا، وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ مَحْظُورِ دِينِهِ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَالْكَذِبُ مَحْظُورٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَالرِّضَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ فِي حَقِّ الْمُعَامَلَاتِ بِصِفَةِ الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: ٧٥] فَخَرَجَتْ الْآيَةُ مَخْرَجَ الْوَصْفِ لَهُمْ بِالْأَمَانَةِ، وَالْأَمَانَةُ مَرْضِيَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْكَافِرُ مَرَضِيًّا لِكُفْرِهِ وَلَمَّا كَانَ مُؤْتَمَنًا فِي الْمُعَامَلَاتِ كَانَ مُؤْتَمَنًا فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى أَحَدٍ كَالصَّبِيِّ، وَالشَّهَادَةُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَالْكَافِرُ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ عَلَى جِنْسِهِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ أَيْضًا عَلَى جِنْسِهِ، وَالْقَاضِي لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِقَوْلِ الْكَافِرِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بِالتَّقْلِيدِ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَالْقَضَاءُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ كَمَا يَلْزَمُهُ النَّظَرُ لِلْغُيَّبِ، وَالصِّغَارِ مِنْهُمْ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْظُرَ بِأَيِّ سَبَبٍ وَجَبَ لَهُمْ الْحَقُّ وَامْتِنَاعُهُمْ عَنْ الْكَذِبِ مُشَاهَدٌ، وَالْعِنَادُ.
وَالْجُحُودُ الَّذِي حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَعَ عِلْمِهِمْ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْ فِي عَصْرِنَا مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَقِّ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ الْكُفْرَ حَقًّا لِجَهْلِهِ بِهِ، وَلَوْ عَلِمَ لَأَسْلَمَ وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَيْضًا مَنْ لَا يَعْلَمُ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} [البقرة: ٧٨] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٤٦] وَقَوْلُهُمْ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ قُلْنَا: إنَّمَا اخْتَلَفَتْ شَهَادَتُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ لِمَا ذَكَرْنَا وَمِثْلُ هَذَا غَيْرُ مُنْكَرٍ شَرْعًا أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى عَدُوِّهِ لَا تُقْبَلُ وَعَلَى غَيْرِهِ تُقْبَلُ وَكَذَا شَهَادَتُهُ لِقَرَابَتِهِ وِلَادًا لَا تُقْبَلُ وَلِغَيْرِهِمْ تُقْبَلُ فَلَا يَبْعُدُ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ لِلتُّهْمَةِ فَكَذَا هَذَا، وَالْمُرْتَدُّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى أَحَدٍ كَالْعَبْدِ، وَالصَّبِيِّ وَمِلَلُ الْكُفْرِ كُلِّهِ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النُّورِ {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٥٥] وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: ٦] اهـ.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ) كَشَهَادَةِ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَعَكْسِهِ. اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ: وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ» إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَلَنَا مَا حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائْتُونِي بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ يَشْهَدُونَ» فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَّزَ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَالْمُرْتَدُّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ)؛ لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute