بِأَدْنَاهُ
كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ
وَأَدْنَاهُ رُجْحَانُ جِهَةِ الدِّينِ، وَالْعَقْلِ عَلَى الْهَوَى، وَالشَّهْوَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ أَصَرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَصَارَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ لِظُهُورِ رُجْحَانِ جِهَةِ الْهَوَى عَلَى الْعَقْلِ.
وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَدْلَ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونُ مُجْتَنَبًا عَنْ الْكَبَائِرِ وَلَا يَكُونُ مُصِرًّا عَلَى الصَّغَائِرِ وَيَكُونُ صَلَاحُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ وَصَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَكُونُ كَبِيرَةً بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا وَلَا يُوثَقُ بِكَلَامِ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الْخَطَأُ، وَالْفَسَادُ فَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ الْكَذِبِ، وَالْإِلْمَامُ مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ إذْ لَا يُوجَدْ مِنْ الْبَشَرِ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ، - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيُؤَدِّي اشْتِرَاطُ الْعِصْمَةِ إلَى سَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: ١٤٣] أَيْ عُدُولًا وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (، وَالْأَقْلَفُ) لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْخِتَانِ وَلِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ هَذَا إذَا تَرَكَهُ لِعُذْرٍ بِهِ مِنْ كِبَرٍ أَوْ خَوْفِ هَلَاكٍ، وَإِنْ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَدْلًا مَعَ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَرَكَهُ اسْتِخْفَافًا بِالسُّنَّةِ وَلَمْ يُقَدِّرْ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْخِتَانِ وَقْتًا مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ السَّمَاعُ وَلَيْسَ لِلرَّأْيِ فِيهِ مَدْخَلٌ.
وَقَدَّرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ وَقْتُهُ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ إلَى عَشْرِ سِنِينَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ وِلَادَتِهِ أَوْ بَعْدَ السَّابِعِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ مُحْتَمِلًا وَلَا يَهْلَكُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ، وَالْحُسَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خُتِنَا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ أَوْ بَعْدَ السَّابِعِ وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ وَهُوَ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ عِنْدَنَا دُونَ النِّسَاءِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ فَرْضٌ وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخِتَانُ لِلرِّجَالِ سُنَّةٌ وَلِلنِّسَاءِ مَكْرُمَةٌ» قَالَ الْحَلْوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ النِّسَاءُ يَخْتَتِنَّ فِي زَمَنِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَكْرُمَةً؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ الذِّلَّةُ عِنْدَ الْمُوَاقَعَةِ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْخَصِيُّ وَوَلَدُ الزِّنَا، وَالْخُنْثَى) لِتَحَقُّقِ الْعَدَالَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْعُضْوِ أَوْ زِيَادَتُهُ أَوْ جِنَايَةُ أَبَوَيْهِ لَا يُوجِبُ قَدَحًا فِي الْعَدَالَةِ وَقَبِلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ، وَالْخُنْثَى إمَّا رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَشَهَادَةُ الْجِنْسَيْنِ مَقْبُولَةٌ ثُمَّ هُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فَيُجْعَلُ امْرَأَةً فِي حَقِّ الشَّهَادَةِ احْتِيَاطًا حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ رَجُلٍ مَا لَمْ يُضَمَّ إلَيْهِ امْرَأَةٌ وَلَا مَعَ النِّسَاءِ بِلَا رَجُلٍ مَعَهُنَّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْعُمَّالُ) الْمُرَادُ بِهِ عُمَّالُ السَّلَاطِينِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ كَالْخَرَاجِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالصَّدَقَاتِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَقِيلَ هُمْ الْأُمَرَاءُ وَقِيلَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ وَيُؤْجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَيَّامًا كَانُوا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ كُبَرَاؤُهُمْ كَانُوا عُمَّالًا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عِبَادَةٌ وَلَهُ الْأَجْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانُوا أَعْوَانًا عَلَى الظُّلْمِ وَقِيلَ إذَا كَانَ الْعَامِلُ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّهُ لِمَهَابَتِهِ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ عَلَى اسْتِئْجَارِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ وَلِوَجَاهَتِهِ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ فُضَيْلٍ بْنَ رَبِيعٍ وَزِير الْخَلِيفَةِ شَهِدَ عِنْد أَبِي يُوسُف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَادِثَةٍ فَرَدَّ شَهَادَته فَشَكَاهُ إلَى الْخَلِيفَة فَقَالَ الْخَلِيفَة أَيُّهَا الْقَاضِي: إنَّ وَزِيرِي رَجُلُ دِينٍ لَا يَشْهَدُ بِالزُّورِ فَلِمَ رَدَدْت شَهَادَتَهُ فَقَالَ؛ لِأَنِّي سَمِعْته يَوْمًا قَالَ لِلْخَلِيفَةِ: أَنَا عَبْدُك، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُبَالِي بِالْكَذِبِ فِي مَجْلِسِك فَلَا يُبَالِي بِالْكَذِبِ فِي مَجْلِسِي أَيْضًا فَعَذَرَهُ الْخَلِيفَةُ فِيهِ وَفِي الْكَافِي هَذَا كَانَ فِي زَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاحُ وَفِي زَمَانِنَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعُمَّالِ لِغَلَبَةِ ظُلْمِهِمْ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْبَزْدَوِيِّ أَنَّ مِنْ قَامَ بِتَوْزِيعِ هَذِهِ النَّوَائِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْقِسْطِ، وَالْعَدَالَةِ كَانَ مَأْجُورًا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مِنْ جِهَةٍ بَاطِلَةٍ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَالْأَقْلَفِ إلَخْ) وَمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ صَلَاتُهُ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَجُوسَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ. اهـ. كَمَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ: الذِّلَّةُ) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ الذَّالَّةَ. اهـ.
(قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَالْخَصِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ رَأَيْت فِي كِتَابِ التَّفْرِيعِ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ قَالَ وَلَا بَأْسَ بِشَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَا إلَّا فِي الزِّنَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْحُدُودِ، فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ فِيهِ هَذَا لَفْظُ كِتَابِ التَّفْرِيعِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ مِثْلَهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا كَانَ وَلَدُ الزِّنَا عَدْلًا وَالْعَدْلُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ. اهـ. (قَوْلُهُ وَلَا مَعَ النِّسَاءِ بِلَا رَجُلٍ مَعَهُنَّ) وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً وَفِي شَهَادَتِهِنَّ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ انْتَهَى أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَالْعُمَّالِ) ذَكَرَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ أَرَادَ بِهِ عَامِلَ السُّلْطَانِ الَّذِي يُعَيِّنُهُ عَلَى أَخْذِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ شَرْعًا أَمَّا الَّذِي يُعَيِّنُهُ عَلَى أَخْذِ الْحَرَامِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ انْتَهَى وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ وَذَكَرَ فِي الْوَاقِعَاتِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ بِعَلَامَةِ السِّينِ: الْعُمَّالُ لِلسُّلْطَانِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْعُشْرَ وَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرَهَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ إذَا كَانُوا أُمَنَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا حُمِلُوا عَلَى ذَلِكَ لِأَمَانَتِهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَحْتَرِزُونَ مِنْ الْكَذِبِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: وَلِوَجَاهَتِهِ لَا يَقْدُمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ) فَأَمَّا إذَا كَانَ سَاقِطَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ مُجَازِفًا فِي كَلَامِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. اهـ. كَافِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute