وَأَبِي جَعْفَرٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَهُوَ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ وَأَقْصَرُ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ كَانَ يُخَالِفُهُ فِيهِ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ فَأَخْرَجَ لَهُمْ الرِّوَايَةَ مِنْ السِّيَرِ فَانْقَادُوا لَهُ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا شَهَادَةَ لِلْفَرْعِ إلَّا بِمَوْتِ أَصْلِهِ أَوْ مَرَضِهِ أَوْ سَفَرِهِ)؛ لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ، وَالْعَجْزُ يَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ الْحُضُورَ مَعَهُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ فَرْضٌ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْعَجْزِ، فَإِذَا سَقَطَ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُ كَيْ لَا يُتْوَى حَقُّهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَمْرُ الْقَاضِي بِالْحُضُورِ إلَى مَوْضِعِ الْمَرِيضِ شَنِيعٌ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَرُبَّمَا لَا يَتَفَرَّغُ لِلْقُعُودِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَمْرَاضِ،
وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ
، وَالسَّفَرُ عُذْرٌ ظَاهِرٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَلَّقَتْ بِهِ أَحْكَامٌ جَمَّةٌ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَالْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ وَامْتِدَادِ مُدَّةِ الْمَسْحِ وَسُقُوطِ الْجُمُعَةِ، وَالْأُضْحِيَّةِ وَحُرْمَةِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَذَا هَذَا الْحُكْمُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبِيتَ فِي مَنْزِلِهِ جَازَ الْإِشْهَادُ
إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ
، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَالثَّانِي وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَرْفَقُ؛ لِأَنَّ إحْيَاءَ الْحُقُوقِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَالشَّاهِدُ أَيْضًا مُحْتَسِبٌ فَلَا يُكَلَّفُ مَا فِيهِ حَرَجٌ وَفِي الْبَيْتُوتَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَيَجُوزُ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِ
دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُ وَإِحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ
وَأَخَذَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا تَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ فَشَهِدَ الْفُرُوعُ عَلَى شَهَادَتِهِ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى مِنْ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ.
ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذَا شَهِدَ الْفُرُوعُ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ، وَالْأُصُولُ فِي الْمِصْرِ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عَلَى قَوْلِهِمَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ إنَابَةَ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْجَوَابِ إلَّا بِعُذْرٍ فَكَذَا لَا يَمْلِكُ الْأَصْلُ إنَابَةَ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الشَّهَادَةِ إلَّا بِعُذْرٍ، وَالْجَامِعُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجَوَابِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَاسْتِحْقَاقِ الْحُضُورِ عَلَى الشُّهُودِ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا مَلَكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَابَةَ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْجَوَابِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَكَذَا فِي الْحُضُورِ إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ عَدَّلَهُمْ الْفُرُوعُ صَحَّ)؛ لِأَنَّ الْفُرُوعَ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ فَصَحَّ تَعْدِيلُهُمْ شُهُودَ الْأَصْلِ وَكَذَا إذَا عَدَّلَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ صَاحِبَهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ بِتَنْفِيذِ شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَوْ اُتُّهِمَ بِمِثْلِهِ لَاتُّهِمَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْحَقِّ وَكَانَ يَنْسَدُّ بَابُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ وَكَيْفَ يُتَّهَمُ بِهِ وَشَهَادَتُهُ لَمْ تُرَدَّ بِرَدِّ شَهَادَةِ صَاحِبِهِ بَلْ تُقْبَلُ بِضَمِّ آخَرَ مَعَهُ، وَإِنْ اتَّفَقَ الرَّدُّ فَهِيَ إنَّمَا تُرَدُّ لِعَدَمِ كَمَالِ النِّصَابِ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ وَقِيلَ لَا يَقْبَلُ تَعْدِيلَ صَاحِبِهِ لِلتُّهْمَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِلَّا عُدِّلُوا) أَيْ إنْ لَمْ يُعَدِّلْهُمْ الْفُرُوعُ عُدِّلُوا بِسُؤَالِ غَيْرِ الْفُرُوعِ عَنْ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَى الْفُرُوعِ النَّقْلُ دُونَ التَّعْدِيلِ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا نَقَلُوا شَهَادَتَهُمْ يَتَعَرَّفُ الْقَاضِي عَدَالَتَهُمْ كَمَا إذَا حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا عِنْدَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ الشَّهَادَةَ وَلَا شَهَادَةَ بِدُونِ الْعَدَالَةِ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ كَانَ يَعْرِفُ الْفُرُوعَ، وَالْأُصُولَ بِالْعَدَالَةِ قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ عَرَفَ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْعَدَالَةِ دُونَ الْآخَرِ سَأَلَ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفْهُمْ بِهَا، فَإِنْ عَدَّلَ الْأُصُولُ الْفُرُوعَ أَوْ بِالْعَكْسِ جَازَ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ عَدَالَةُ الْأُصُولِ بِتَعْدِيلِ الْفُرُوعِ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الْفُرُوعُ لِلْقَاضِي لَا نَعْرِفُ حَالَهُمْ أَوْ لَا نُخْبِرُك بِحَالِهِمْ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَبْطُلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ بِإِنْكَارِ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ)
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
( قَوْلُهُ: وَأَخَذَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ قَالَ الْفَقِيهُ وَبِهَذَا الْقَوْلِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فِي الْحُضُورِ فَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَتِلْكَ مَشَقَّةٌ قَلِيلَةٌ فَلَا تُعْتَبَرُ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ حَسَنٌ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: فَإِنْ عَدَّلَهُمْ الْفُرُوعُ صَحَّ) وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ تَعْدِيلَهُمَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ نَائِبٌ عَنْ الْأَصْلِ فَتَعْدِيلُهُ الْأَصْلَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَعْدِيلِ الْأَصْلِ نَفْسِهِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْفَرْعَ نَائِبٌ عَنْ الْأَصْلِ فِي نَقْلِ عِبَارَتِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَإِذَا نَقَلَ عِبَارَتَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ النِّيَابَةِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجَانِبِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَلَوْ اُتُّهِمَ بِمِثْلِهِ لَاتُّهِمَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِ الْحَقِّ) بِأَنَّهُ إنَّمَا يَشْهَدُ لِيَصِيرَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا عِنْدَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ. اهـ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ) أَيْ الْوَاجِبَ عَلَى الْفُرُوعِ. اهـ. فَتْحٌ
(قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَتَبْطُلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ بِإِنْكَارِ الْأَصْلِ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ قَالَ الْكَمَالُ: لِأَنَّ إنْكَارَهُمَا الشَّهَادَةَ إنْكَارٌ لِلتَّحْمِيلِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ فَوَقَعَ فِي التَّحْمِيلِ تَعَارُضُ خَبَرِهِمَا بِوُقُوعِهِ وَخَبَرِ الْأُصُولِ بِعَدَمِهِ وَلَا ثُبُوتَ مَعَ التَّعَارُضِ اهـ وَقَالَ الْأَتْقَانِيُّ: لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ التَّحْمِيلُ، فَإِذَا أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ شَهَادَتَهُمْ لَا يُوجَدُ التَّحْمِيلُ فَلَا تَصِحُّ شَهَادَةُ الْفَرْعِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ اهـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ شُهُودُ الْأَصْلِ مَا لَنَا شَهَادَةٌ عَلَى هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَمَاتُوا أَوْ غَابُوا ثُمَّ جَاءَ شُهُودُ الْفَرْعِ يَشْهَدُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَمَّا مَعَ حَضْرَتِهِمْ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى شَهَادَةِ الْفُرُوعِ، وَإِنْ لَمْ يُنْكِرْ شُهُودُ الْأَصْلِ. اهـ. كَافِي قَالَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَبِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ هُنَا أَنَّ الْحُكْمَ وَاحِدٌ سَوَاءٌ أَنْكَرَ الْأُصُولُ شَهَادَتَهُمْ