للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَاتِمُ الشَّهَادَةِ كَشَاهِدِ الزُّورِ» وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الشَّاهِدُ بِالزُّورِ لَا يَرْفَعُ قَدَمَيْهِ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى تَلْعَنَهُ مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضِ» فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الِاجْتِنَابُ عَنْهَا، وَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ، وَالتَّوْبَةُ عَنْهَا لَا تَصِحُّ إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلَا يَمْنَعُهُ عَنْهَا الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ النَّاسِ وَخَوْفُ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ الْخَالِقِ أَوْلَى مِنْ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَفِيهِ تَدَارُكُ مَا أَتْلَفَهُ بِالزُّورِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي ثُمَّ رُكْنُ الرُّجُوعِ أَنْ يَقُولَ رَجَعْت عَمَّا شَهِدْت بِهِ أَوْ شَهِدْت بِزُورٍ فِيمَا شَهِدْت وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَحُكْمُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ التَّعْزِيرُ، وَالضَّمَانُ وَقَبْلَهُ التَّعْزِيرُ فَقَطْ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي)؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ أَيِّ حَاكِمٍ كَانَ كَالْفَسْخِ فِي بَابِ الْبَيْعِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ مِنْ قِيَامِ الْمَبِيعِ وَرِضَا الْمُتَبَايِعَيْنِ وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ تَوْبَةٌ عَمَّا اُرْتُكِبَ مِنْ قَوْلِ الزُّورِ، وَالتَّوْبَةِ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ».

فَإِذَا كَانَتْ الْجَرِيمَةُ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تَوْبَتُهَا كَذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الرُّجُوعُ عِنْدَ غَيْرِهِ غَيْرَ صَحِيحٍ فَلَوْ أَقَامَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا بَيِّنَةً بِأَنَّهُمَا رَجَعَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ طَلَبَ يَمِينَهُمَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَلَا يَحْلِفَانِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُمَا رَجَعَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي حَيْثُ يَصِحُّ إقْرَارُهُمَا، وَإِنْ أَقَرَّا بِرُجُوعٍ بَاطِلٍ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا بِهِ يُجْعَلُ رُجُوعًا مِنْهُمَا فِي الْحَالِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمَا رَجَعَا عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي كَانَ قَضَى بِالْحَقِّ حَيْثُ تُقْبَلُ هُنَاكَ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا صَحِيحًا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فَإِنْ رَجَعَا قَبْلَ حُكْمِهِ لَمْ يَقْضِ بِهَا)؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمَا مُتَنَاقِضٌ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

بَعْدَهُ وَخُصُوصَ مُنَاسَبَتِهِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَهُوَ أَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إلَّا لِتَقَدُّمِهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً. اهـ. كَمَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الْكَاكِيُّ عَقِبَ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ؛ إذْ الرُّجُوعُ يَقْتَضِي سَبْقَ الشَّهَادَةِ وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بِشَهَادَةِ الزُّورِ إذْ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ مُسَبَّبٌ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ ثُمَّ لِلرُّجُوعِ رُكْنٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّاهِدِ شَهِدْت بِزُورٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْقَاضِي أَيِّ قَاضٍ كَانَ فَيَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي. اهـ. (قَوْلُهُ: وَحُكْمُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ) قَالُوا وَيُعَزَّرُ الشُّهُودُ سَوَاءٌ رَجَعُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَوْبَةٌ عَنْ تَعَمُّدِ الزُّورِ إنْ تَعَمَّدَ أَوْ التَّهَوُّرِ وَالْعَجَلَةِ إنْ كَانَ أَخْطَأَ فِيهِ وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا عَلَى ذَنْبٍ ارْتَفَعَ بِهَا وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ. اهـ. كَمَالٌ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَحُكْمُهُ إيجَابُ التَّعْزِيرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ رَجَعَ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ وَالضَّمَانِ مَعَ التَّعْزِيرِ إنْ رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَكَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَالًا وَقَدْ أَزَالَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَقَبْلَهُ التَّعْزِيرُ فَقَطْ) أَيْ بِالضَّرْبِ عِنْدَهُمَا وَبِالتَّشْهِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ. اهـ. (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي) قَالَ الْكَمَالُ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْقَاضِي الْمَشْهُودُ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرَهُ اهـ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِ الشَّارِحِ أَيَّ حَاكِمٍ كَانَ اهـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْكَمَالُ وَزَادَ جَمَاعَةٌ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِرُجُوعِهِمَا وَيُضَمِّنَهُمَا الْمَالَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَرْجِعَا لَا يَحْلِفَانِ وَكَذَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا الرُّجُوعِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَإِلْزَامُ الْيَمِينِ لَا يُقْبَلُ إلَّا عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ ثُمَّ قَالَ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَقَيُّدِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ وَنُقِلَ هَذَا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ تَوَقُّفَ صِحَّةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالرُّجُوعِ أَوْ بِالضَّمَانِ وَتَرَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مُصَنِّفِي الْفَتَاوَى هَذَا الْقَيْدَ وَذَكَرَ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَهُ تَعْوِيلًا عَلَى هَذَا الِاسْتِبْعَادِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ شَاهِدٌ بِالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ وَبِالْتِزَامِ الْمَالِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ إذَا تَصَادَقَا أَنَّ لُزُومَ الْمَالِ عَلَيْهِ كَانَ بِهَذَا الرُّجُوعِ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَالتَّوْبَةُ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْجِنَايَةُ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ عَنْهَا وَهِيَ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ مُخْتَصًّا بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَيْضًا أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ «مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ مُعَاذٌ أَوْصِنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى مَا اسْتَطَعْت وَاذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ شَجَرٍ وَحَجَرٍ وَإِذَا عَمِلْت شَرًّا فَأَحْدِثْ تَوْبَةَ السِّرِّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ بِالْعَلَانِيَةِ». اهـ. (قَوْلُهُ وَلَا يَحْلِفَانِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا) وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَإِلْزَامُ الْيَمِينِ لَا يُقْبَلُ إلَّا عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ. اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: فَإِنْ رَجَعَا قَبْلَ حُكْمِهِ لَمْ يَقْضِ بِهَا) حَيْثُ قَالُوا نَشْهَدُ بِكَذَا لَا نَشْهَدُ بِهِ اهـ فَتْحٌ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْكَمَالُ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ يُنْظَرُ إلَى حَالِ الشُّهُودِ إنْ كَانَ حَالُهُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَفْضَلَ مِنْ حَالِهِمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ فِي الْعَدَالَةِ صَحَّ رُجُوعُهُمْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ فَيُعَزَّرُونَ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَيُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ كَحَالِهِمْ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَوْ دُونَهُ يُعَزَّرُونَ وَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشَّاهِدِ وَهَذَا قَوْلُ أُسْتَاذِهِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَلَا يُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَهُوَ قَوْلُهُمَا اهـ.

وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَ قَاضٍ وَرَجَعَ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ يَصِحُّ وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لَكِنْ إذَا قَضَى عَلَيْهِ هَذَا الْقَاضِي بِالضَّمَانِ كَمَا لَوْ رَجَعَ عِنْدَ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>