للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْقَاضِي لَا يَحْكُمُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَحَدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا شَيْئًا عَلَى أَحَدٍ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا الْحَقُّ إلَّا بِالْقَضَاءِ فَلَمْ يُتْلِفَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَا عَلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ عَدَمَ ثُبُوتِ حَقِّهِ لَا يُضَافُ إلَى رُجُوعِهِمَا بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ عَلَى مَا كَانَ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يُقَالَ: لَوْلَا رُجُوعُهُمَا لَقَضَى بِشَهَادَتِهِمَا وَلَثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ لَكِنْ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا لَوْ أَبَيَا أَنْ يَشْهَدَا ابْتِدَاءً وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا إذَا ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا عِنْدَهُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمَا صَادِقَانِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْحُكْمِ لِجَوَازِ أَنْ يُجَرَّحَا وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ عَلَى دَعْوَاهُ فَلَعَلَّهُ يَشْهَدُ لَهُ غَيْرُهُمَا مِنْ الْعُدُولِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُ وَلَا يُتْوَى وَلَئِنْ تَوَى فَهُوَ مُضَافٌ إلَى عَجْزِهِ لَا إلَيْهِمَا

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبَعْدَهُ لَمْ يُنْقَضْ) أَيْ إذَا رَجَعُوا بَعْدَمَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمَا مُتَنَاقِضٌ فَكَمَا لَا يُحْكَمُ بِالْمُتَنَاقِضِ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالْمُتَنَاقِضِ؛ لِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَصَارَ نَظِيرَ مَا لَوْ شَهِدَ أَنَّ عَمْرًا قَتَلَهُ بَكْرٌ بِالْكُوفَةِ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِمِصْرَ، فَإِنَّهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ يَرُدَّانِ وَبَعْدَهُ لَا يُنْقَضُ لِتَرَجُّحِهِ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ نُقِضَ أَدَّى إلَى النَّقْضِ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى بِرُجُوعِهِ عَنْ الرُّجُوعِ ثُمَّ بِرُجُوعِهِ عَنْ هَذَا الرُّجُوعِ الْأَخِيرِ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَضَمِنَا مَا أَتْلَفَاهُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا)؛ لِأَنَّ التَّسْبِيبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي يُوجِبُ الضَّمَانَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُمَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَضْمَنَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّسْبِيبِ مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ قُلْنَا لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانُ عَلَى الْقَاضِي عِنْدَ رُجُوعِ الشُّهُودِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاشِرًا؛ لِأَنَّهُ مُلْجَأٌ مِنْ جِهَتِهِمَا، فَإِنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِمَا حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ بِإِثْمٍ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ وَيُعَزَّرُ.

وَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الضَّمَانَ لَامْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ مَخَافَةَ الْغَرَامَةِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ مَضَى فَتَعَيَّنَ صَاحِبُ السَّبَبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى صَاحِبِ الْعِلَّةِ كَوَضْعِ الْحَجَرِ عَلَى الطَّرِيقِ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُوجِبُ الْقِصَاصَ عَلَى شُهُودِ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَمَا قَتَلَهُ الْوَلِيُّ وَهُوَ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَأَمْرُ الدَّمِ أَعْظَمُ ثُمَّ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْمَالَ وَهُوَ يُثْبِتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَيَقُولُ إنَّ الْقَاضِيَ مَلْجَأٌ وَلَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْمَالِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ وَلَا يُقَالُ أَنْتُمْ أَيْضًا تَنَاقَضَ قَوْلُكُمْ، فَإِنَّكُمْ أَوْجَبْتُمْ عَلَى الشَّاهِدِ الْمَالَ إذَا رَجَعَ وَلَمْ تُوجِبُوا عَلَيْهِ الْقِصَاصَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءُ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْقِصَاصُ نِهَايَةُ الْعُقُوبَةِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بِنِهَايَةِ الْجِنَايَةِ، وَالتَّسْبِيبُ فِيهِ قُصُورٌ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

بِالضَّمَانِ وَنَقَلَهُ عَنْ شَرْحِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ ثُمَّ قَالَ وَكَانَ أُسْتَاذُنَا فَخْرُ الدِّينِ الْبَدِيعُ يَسْتَبْعِدُ تَوَقُّفَ صِحَّةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالرُّجُوعِ أَوْ بِالضَّمَانِ. اهـ. (قَوْلُهُ فَالْقَاضِي لَا يَحْكُمُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ) وَلِأَنَّهُ أَيْ كَلَامَهُ الَّذِي نَاقَضَ بِهِ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي احْتِمَالِهِ الصِّدْقَ كَالْأَوَّلِ فَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَوُقِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا. اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا شَيْئًا عَلَى أَحَدٍ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ) أَيْ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهَا صَارَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ فَسَقَطَتْ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ

(قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَبَعْدَهُ لَمْ يُنْقَضْ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَمَّا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِالرُّجُوعِ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ وَالْقَضَاءُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ لَا يَجُوزُ فَلَا يَفْسَخُ الْقَاضِي حُكْمَهُ بِالرُّجُوعِ وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَمَا لَيْسَ بِشَهَادَةٍ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْحُكْمُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَضَمِنَا إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ لَهُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْإِتْلَافِ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ وَلَا عِبْرَةَ بِالسَّبَبِ مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ فَسَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشُّهُودِ كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ وَلَنَا أَنَّ الشُّهُودَ لَمَّا رَجَعُوا عُلِمَ أَنَّ الْمَالَ وَصَلَ إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ وَشَهَادَتُهُمْ كَانَتْ بَاطِلَةً وَتَسْلِيمُ مَالِ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ وَلَا عَلَى الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ فَلِأَنَّ رُجُوعَ الشَّاهِدِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَاضِي فَلِأَنَّهُ كَالْمُلْجَأِ عَلَى الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فُرِضَ عَلَيْهِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ ظَاهِرًا حَتَّى لَوْ لَمْ يَرَ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَكْفُرُ وَلَوْ رَأَى ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا أَخَّرَ الْقَضَاءَ يَفْسُقُ وَإِذَا كَانَ كَالْمُلْجَأِ كَانَ مَعْذُورًا فِي قَضَائِهِ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ وَعَلَى الْقَاضِي فَتَعَيَّنَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا سَبَبًا لِإِزَالَةِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالْعِتْقِ ثُمَّ رَجَعُوا اهـ مَعَ حَذْفٍ

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّسْبِيبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي إلَخْ) وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِأَنَّهُمَا تَعَدَّيَا وَوَضَعَا الشَّهَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى تَلَفِ الْمَالِ وَالْإِتْلَافُ بِسَبَبٍ إذَا كَانَ بِسَبِيلِ التَّعَدِّي يُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا فِي حَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ كَلَامَ الشُّهُودِ مُتَنَاقِضٌ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْقَضَاءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَّهَمٍ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَسْتَرِدُّ الْمَالَ مِنْ الْمَحْكُومِ لَهُ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الشَّاهِدِ صَحَّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّسْبِيبِ مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ) قُلْنَا الْمُبَاشِرُ الْقَاضِي وَالْمُدَّعِي وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاضِي اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ كَالْمُلْجَأِ إلَى مُبَاشَرَةِ الْقَضَاءِ الَّذِي بِهِ الْإِتْلَافُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِافْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَإِذَا أَلْجَأَهُ الشَّرْعُ لَا يُضَمِّنُهُ، وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَلِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِحَقٍّ ظَاهِرٍ مَاضٍ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الرُّجُوعِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ لِيُنْقَضَ الْحُكْمُ وَإِذَا لَمْ يُنْقَضْ لَا يُمْكِنُ جَبْرُهُ عَلَى إعْطَاءِ مَا أَخَذَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ الْمَاضِي شَرْعًا وَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عَلَى الْمُبَاشِرِ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُتَعَدِّي بِالتَّسْبِيبِ اهـ فَتْحٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>