بَيِّنَةً تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ
وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ كُلِّ الثَّمَنِ ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةَ السُّقُوطِ بِدَعْوَاهُ أَنَّ قِيمَةَ الْهَالِكِ أَقَلُّ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ لَهُ أَيْضًا وَهَذَا الْفِقْهُ وَهُوَ أَنَّ الْأَيْمَانَ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَقِيقَةُ لِأَنَّهَا تَتَوَجَّهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَهُمَا يَعْرِفَانِ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَيَنْبَنِي الْأَمْرُ عَلَيْهَا وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ حَقِيقَةً فَكَانَ الْقَوْلُ لَهُ وَفِي الْبَيِّنَاتِ يُعْتَبَرُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَاعْتُبِرَ الظَّاهِرُ فِي حَقِّهِمَا وَالْبَائِعُ مُدَّعٍ ظَاهِرًا فَلِهَذَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا وَتَرَجَّحَتْ بِالزِّيَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَائِعَ إذَا رَضِيَ أَنْ يَتْرُكَ حِصَّةَ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا إذَا هَلَكَ بَعْضُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ
وَإِنْ هَلَكَ قَبْلَهُ يَتَحَالَفَانِ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَا لَوْ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْكُلَّ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِأَنَّ السِّلْعَةَ اسْمٌ لِجَمِيعِهَا غَيْرُ سَدِيدٍ وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَالْمَذْكُورُ هُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا يَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ تَقْبَلُ الْفَسْخَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَدَّعِي بَدَلًا زَائِدًا وَالْعَبْدَ يُنْكِرُهُ وَالْعَبْدَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَدَاءِ مَا يُقِرُّ بِهِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُهُ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَهُوَ قَبْلَ الْقَبْضِ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ فَيَتَعَدَّى إلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْكِتَابَةِ مُقَابِلٌ بِفَكِّ الْحَجَرِ وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَالْيَدُ لِلْحَالِ وَقَدْ سُلِّمَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ وَلَا يَدَّعِي عَلَى مَوْلَاهُ شَيْئًا
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّحَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَتَحَالَفَانِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ مُنْكِرًا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُقَابِلًا بِالْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَقَبْلَهُ لَا يُقَابِلُهُ أَصْلًا حَتَّى يُقَالَ فِيهِ أَنَّهُ اخْتِلَافٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا نَظِيرُ الْأُجْرَةِ فَإِنَّهَا مُقَابَلَةٌ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَنْفَعَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَكَذَا الْكِتَابَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ صُورَةً وَمَعْنًى لِأَنَّ صُورَةَ الْبَيْعِ لِلِاسْتِرْبَاحِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّضْيِيقِ وَالْكِتَابَةُ بِخِلَافِهِ وَالْبَيْعُ يَقْبَلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالْكِتَابَةُ لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ بَعْدَ التَّمَامِ فَلَا تَكُونُ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَتَحَالَفَانِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَالْمَصِيرُ إلَى التَّحَالُفِ فِيهِ مُفِيدٌ حَتَّى إذَا نَكَلَ أَحَدُهُمَا لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ إذَا نَكَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْفَسْخِ بِالتَّعْجِيزِ وَالدَّيْنُ فِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى لَا تَجُوزَ الْكَفَالَةُ بِهِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْكُلَّ مَالُ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَإِذَا انْعَدَمَ التَّحَالُفُ وَجَبَ اعْتِبَارُ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ وَهُوَ الْعَبْدُ
وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِهَا وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى قَدْرَ مَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ يَعْتِقُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْحُرِّيَّةَ لِنَفْسِهِ عِنْدَ أَدَاءِ هَذَا الْقَدْرِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ نَظِيرُ مَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَدَّى خَمْسَمِائَةٍ يَعْتِقُ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ بَدَلُ الْكِتَابَةِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تَرْتَفِعُ بَعْدَ النُّزُولِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَلُ وَأَمَّا إذَا اُخْتُلِفَ فِي رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ إقَالَةِ السَّلَمِ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَيْسَ بِبَيْعٍ بَلْ هُوَ إبْطَالٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّ رَبَّ السَّلَمِ لَا يَمْلِكُ الْمُسْلَمَ فِيهِ بِالْإِقَالَةِ بَلْ يَسْقُطُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ حَتَّى يَتَحَالَفَا فَاعْتُبِرَ فِيهِ حَقِيقَةُ الدَّعْوَى وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ حَقِيقَةً فَكَانَ الْقَوْلُ لَهُ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّحَالُفِ فَسْخُ الْعَقْدِ حَتَّى يَعُودَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى رَأْسِ مَالِهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَالتَّحَالُفُ فِي الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَقْصُودَ وَهُوَ فَسْخُ الْإِقَالَةِ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي السَّلَمِ بَعْدَ نَفَاذِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْفَسْخِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ قَالَا نَقَضْنَا الْإِقَالَةَ لَا تُنْتَقَضُ وَكَذَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَرْضًا فَقَبَضَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ ثُمَّ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لَا يَعُودُ السَّلَمُ فَكَذَا بِالتَّحَالُفِ لَا تَنْتَقِضُ الْإِقَالَةُ وَلَا يَعُودُ السَّلَمُ بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ حَيْثُ تَنْتَقِضُ بِهَذِهِ النَّوَاقِضِ وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ
فَلَوْ انْفَسَخَتْ الْإِقَالَةُ لَكَانَ حُكْمُ انْفِسَاخِهَا عَوْدَ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُودَ بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ عَيْنٌ فَأَمْكَنَ عَوْدُهُ إلَى مِلْكِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ فَيَنْبَنِي الْأَمْرُ عَلَيْهَا) أَيْ لِئَلَّا يَلْزَمُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَسَمِ بِجَهَالَةٍ. اهـ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ) أَيْ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْوَاقِعِ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ عِنْدَهُمَا بِهَزْلٍ أَوْ تَلْجِئَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute