بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ إذَا كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا رَهَنَ عَيْنًا أَوْ آجَرَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهُنَا أَيْضًا فِي إقْرَارِهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ أَصْحَابِ الدُّيُونِ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ اسْتِيفَاءً؛ وَلِهَذَا مُنِعَ مِنْ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ مُطْلَقًا فِي حَقِّهِمْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالثُّلُثِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَبَبُهَا مَعْرُوفًا كَالنِّكَاحِ الْمُشَاهَدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ كَالْبَيْعِ الْمُشَاهَدِ وَالْإِتْلَافِ الْمُشَاهَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا التُّهْمَةُ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْبَيْعُ لَا يُبْطِلُ حَقَّهُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِيَّةِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ وَفِي النِّكَاحِ إنْ كَانَ يَبْطُلُ لَكِنَّ حَقَّهُ فِيهِ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ كَمَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَسْكَنِهِ وَثَمَنِ الْأَدْوِيَةِ وَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِخِلَافِ حَالَةِ الصِّحَّةِ حَيْثُ يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَالِهِ وَلِهَذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ مُطْلَقًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَحَالَةُ الْمَرَضِ حَالَةُ عَجْزٍ فَيُمْنَعُ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرَ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ.
وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا إذَا قَضَى مَا اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ أَوْ نَقَدَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى فِيهِ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْ حَقَّهُمْ، وَإِنَّمَا حَوَّلَهُ مِنْ مَحَلٍّ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَى مَحَلٍّ حَصَّلَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ رَدَّ عَيْنَ مَا اسْتَقْرَضَهُ إلَى الْمُقْرِضِ أَوْ رَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إخْرَاجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِمَا يُعَادِلُهُ مِنْ الْعِوَضِ لَا يُعَدُّ إخْرَاجًا بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَعْطَاهَا الْمَهْرَ حَيْثُ يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يُشَارِكُوا الْمَرْأَةَ فِيمَا قَبَضَتْ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ عَيْنًا وَأَوْفَى أُجْرَتَهَا فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ عَنْ مِلْكِهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ قَضَى حَقَّ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ، وَلَهُمْ فِيهِ أَنْ يُشَارِكُوهُ فَكَذَا هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِوَارِثٍ آخَرَ وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ يَحْجُبُ غَيْرَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ بِالْمُزَاحَمَةِ أَيْضًا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى مِنْ الْحَجْبِ قُلْنَا: إنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَارِثِ الْمَالَ بِالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا وَالِاسْتِحْقَاقُ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا فَيُضَافُ إلَى الْمَوْتِ؛ وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَا بِالنَّسَبِ قَبْلَ الْمَوْتِ ثُمَّ مَاتَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَوَرِثَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْهُ الْمَالَ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ وَرِثَ بِالْمَوْتِ فَأَمَّا الدَّيْنُ فَلَا يَجِبُ بِالْمَوْتِ بَلْ بِالْإِقْرَارِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ.
وَدَيْنُ الْمَرَضِ إذَا كَانَ سَبَبُهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْمَرَضِ كُلَّهَا بِمَنْزِلَةِ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَقِّ الْحَجْرِ فَيَسْتَوِي فِيهَا السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ كَمَا أَنَّ أَحْوَالَ الصِّحَّةِ كُلَّهَا
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
؛ وَلِأَنَّهُ بِالْقَرْضِ وَالشِّرَاءِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي التَّرِكَةِ مِقْدَارَ الدَّيْنِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهَا وَمَتَى لَمْ يَتَعَرَّضْ لِحُقُوقِهِمْ بِالْإِبْطَالِ نَفَذَ مُطْلَقًا (قَوْلُهُ؛ وَلِهَذَا مُنِعَ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ بِاسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ يَعْنِي لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ التَّبَرُّعِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ كَمَا فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فِيمَا لَمْ تَسْتَغْرِقْ الدُّيُونُ جَمِيعَ مَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَفِي حَقِّ الثُّلُثِ يُمْنَعُ أَيْضًا إذَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ جَمِيعَ مَالِهِ. اهـ. كَاكِيٌّ.
(فَرْعٌ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي: وَلَوْ مَرِضَ وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ بِدَيْنٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ، أَوْ مُضَار بِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ قُسِمَتْ الْأَلْفُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ أَوَّلًا فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْأَلْفِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ فَإِذَا أَقَرَّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ فَقَدْ أَقَرَّ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ مَعْنًى وَالْكُلُّ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ فَاسْتَوَتْ الدُّيُونُ فِي التَّعَلُّقِ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ الْمَيِّتِ، أَوْ قَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ دَيْنِي كَانَتْ الْأَلْفُ بَيْنَ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَالْغَرِيمِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ وُجِدَتْ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْكُلِّ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ وَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْآخَرِ بِإِبْرَاءِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ يُبْرِئْهُ الْأَوَّلُ وَلَكِنَّهُ أَكْذَبَهُ فِي الْإِقْرَارِ وَرَدَّهُ كَانَتْ الْأَلْفُ كُلُّهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِكْذَابِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ وَلَا تَعَلُّقَ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا سَابِقًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَيَسْبِقُهُ فِي التَّعَلُّقِ لِمَا بَيَّنَّا كَذَا فِي شَرْحِ الْكَافِي. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ كَمَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ إلَخْ) فَإِنْ قِيلَ لَوْ تَزَوَّجَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُولَدُ لَهُ عَادَةً أَوْ الْمَرْأَةُ آيِسَةٌ، أَوْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّ لَهُ نِسَاءً وَجِوَارِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشَارِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ قُلْنَا النِّكَاحُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مِنْ الْحَوَائِجِ، وَالْعِبْرَةُ لِلْأَصْلِ لَا لِلْعَارِضِ وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا لِيُبْتَنَى الْأَمْرُ عَلَيْهَا إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ. اهـ. (قَوْلُهُ بِخِلَافِ حَالَةِ الصِّحَّةِ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي الصِّحَّةِ بِالدَّيْنِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِمَا أَنَّ الدَّيْنَ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ فَقَالَ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِالْمَالِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَيَتَحَقَّقُ التَّمَيُّزُ فَلَمْ تَقَعْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْلِيقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ وَهَذِهِ أَيْ حَالَةُ الْمَرَضِ حَالَةُ الْعَجْزِ عَنْ الِاكْتِسَابِ إذْ الْمَرِيضُ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ فَتَعَيَّنَ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ. اهـ. كَاكِيٌّ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ بَعْضٍ) يَعْنِي إذَا قَضَى الْمَرِيضُ بَعْضَ الدُّيُونِ مِنْ دُيُونِ الصِّحَّةِ وَالدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ يُرَدُّ ذَلِكَ وَيُجْعَلُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ إلَّا إذَا قَضَى الْقَرْضَ، أَوْ أَدَّى ثَمَنَ الْمَبِيعِ فَيَكُونُ الْمُقْرِضُ وَالْبَائِعُ أَحَقَّ بِذَلِكَ فَلَيْسَ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَغَيْرِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ) جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي إذَا أَقَرَّ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ ثَانِيًا أَنْ لَا يَصِحَّ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ بِمَالِهِ كَمَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِهِ. اهـ. كَاكِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute