للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُخَاصَمَةُ وَأَصْلُهُ مِنْ الصَّلَاحِ، وَهُوَ ضِدُّ الْفَسَادِ، وَمَعْنَاهُ دَالٌّ عَلَى حُسْنِهِ الذَّاتِيِّ وَكَمْ مِنْ فَسَادٍ انْقَلَبَ بِهِ إلَى الصَّلَاحِ بِحُسْنِهِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِنْدَ حُصُولِ الْفَسَادِ وَالْفِتَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: ٩] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: ١٢٨] قَالُوا مَعْنَاهُ جِنْسُ الصُّلْحِ خَيْرٌ وَلَا يَعُودُ إلَى الصُّلْحِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ، وَالْعِلَّةُ لَا تَتَقَيَّدُ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ فَيُعْلَمُ بِهَذَا أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ إطْفَاءَ النَّائِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَرَفْعَ الْمُنَازَعَاتِ الْمُوبِقَاتِ عَنْهُمْ، وَهِيَ ضِدُّ الْمُصَالَحَةِ وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنَازَعُوا} [الأنفال: ٤٦] وَفِي تَرْكِ الصُّلْحِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَلَبَ جَمِيعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْإِنْكَارِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْإِعْسَارِ، وَفِيهِ فَسَادٌ عَظِيمٌ بَعْدَ الْإِنْكَارِ فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ تَكْثُرُ الْعَدَاوَةُ وَتَهِيجُ الْفِتَنُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالشُّهُودِ وَالْقَاضِي وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «رُدُّوا الْخُصُومَ كَيْ يَصْطَلِحُوا»

وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَعْمَلُ الشَّيْطَانُ فِي إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فِي بَنِي آدَمَ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ مِنْ إبْطَالِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِ هَذَا الصُّلْحِ فَتْحَ بَابِ الْمُنَازَعَاتِ وَإِثَارَةَ النَّائِرَاتِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِقَامَةَ الْفِتَنِ وَالْمُكَايَدَاتِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ أَنَّ فِتْنَةً وَقَعَتْ فِي قَبِيلَةٍ بِسَبَبِ تُهْمَةِ غُلَامٍ فَهَاجَتْ بَيْنَهُمْ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ أَلْفًا فَامْتَدَّتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ إلَى أَنْ وَقَعَ الصُّلْحُ فَانْطَفَأَتْ النَّائِرَةُ؛ وَلِأَنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ أَمَسُّ لِدَفْعِ الشَّرِّ فَكَانَ أَوْلَى بِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (، وَهُوَ جَائِزٌ بِإِقْرَارٍ وَسُكُوتٍ، وَإِنْكَارٍ) لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا وَمَا رَوَيْنَا وَمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

( قَوْلُهُ وَأَصْلُهُ مِنْ الصَّلَاحِ) أَيْ وَهُوَ اسْتِقَامَةُ الْحَالِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ قَالُوا مَعْنَاهُ جِنْسُ الصُّلْحِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ فَإِنْ قُلْت لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْجِنْسَ لَا الْعَهْدَ وَقَدْ وُجِدَ دَلِيلُ الْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: ١٢٨] أَيْ ذَلِكَ الصُّلْحُ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا صَرْفُهُ إلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّ مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّلْحِ لَا يَجُوزُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ بَعْدَ الْيَمِينِ وَصُلْحُ الْمُودَعِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا وَإِذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ قَذْفًا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَأَنْكَرَتْ فَصَالَحَتْ عَلَى مَالٍ لَا يَجُوزُ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ صَرْفُهُ إلَى الْكُلِّ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَدْنَى لِتَيَقُّنِهِ وَهُوَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ قُلْت التَّعَلُّقُ بِالْآيَةِ صَحِيحٌ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهِيَ مُطْلَقَةٌ لَا فَصْلَ فِيهَا وَحَمْلُهُ عَلَى الْعَهْدِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالصُّلْحِ وَعَلَّلَ بِكَوْنِهِ خَيْرًا وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ وَكَأَنَّهُ قَالَ صَالِحُوا فَإِنَّ الصُّلْحَ خَيْرٌ يَعْنِي جِنْسَ الصُّلْحِ خَيْرٌ كَمَا يُقَالُ صَلِّ وَالصَّلَاةُ خَيْرٌ أَيْ جِنْسُ الصَّلَاةِ خَيْرٌ، غَايَةُ مَا فِي الْبَاب أَنَّهُ انْصَرَفَ إلَى الصُّلْحِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، وَلَكِنَّهُ وَصَفَهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ خَيْرًا؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ فَكُلُّ مَا يَكُونُ صُلْحًا يَكُونُ خَيْرًا، وَأَيْضًا قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نُشُوزَ الزَّوْجِ وَالْإِعْرَاضَ قَدْ يَكُونُ عَنْ إنْكَارِ حَقِّهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ صُلْحًا عَلَى الْإِنْكَارِ وَمَعَ ذَلِكَ جَازَ وَقَوْلُهُمْ لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى الْجِنْسِ كُلِّهِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ نَقُولُ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالْإِطْلَاقِ بَلْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِالْإِطْلَاقِ بِدَلِيلِ التَّقْيِيدِ وَوُجُودُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ الْعَمَلَ بِالْإِطْلَاقِ فِيمَا وَرَاءَ دَلِيلِ التَّقْيِيدِ وَقَدْ تَأَيَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ» اهـ مَا قَالَهُ الْأَتْقَانِيُّ

(فَرْعٌ) قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ الصُّلْحُ مَعَ الْمُودَعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ إذَا ادَّعَى صَاحِبُ الْمَالِ الْإِيدَاعَ وَجَحَدَ الْمُودَعُ وَالثَّانِي إذَا ادَّعَى صَاحِبُ الْمَالِ الْإِيدَاعَ وَالِاسْتِهْلَاكَ وَالْمُودَعُ أَقَرَّ بِالْإِيدَاعِ وَسَكَتَ وَلَمْ يَدَّعِ الرَّدَّ أَوْ الْهَلَاكَ وَفِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الصُّلْحُ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ، وَالثَّالِثُ إذَا قَالَ الْمُودَعُ هَلَكْت، أَوْ رَدَدْتُ وَصَاحِبُ الْمَالِ سَاكِتٌ، أَوْ قَالَ لَا أَدْرِي فَاصْطَلَحَا لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُوسُفَ وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالرَّابِعُ إذَا قَالَ الْمُودَعُ ضَاعَتْ، أَوْ رَدَدْتُ وَقَالَ الْمَالِكُ لَا بَلْ اسْتَهْلَكْتَ فَاصْطَلَحَا لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ قَالَ أُسْتَاذُنَا فَخْرُ الدِّينِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَيْضًا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إذَا قَالَ الْمَالِكُ اسْتَهْلَكْتَهَا

وَقَالَ الْمُودَعُ ضَاعَتْ أَوْ رَدَدْتُ أَوْ قَالَ الْمُودَعُ ضَاعَتْ، أَوْ رَدَدْتُ وَقَالَ الْمُودِعُ اسْتَهْلَكْتَهَا وَذَكَرُوا الْخِلَافَ فِيهِمَا جَمِيعًا وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ إذَا قَالَ الْمُودِعُ أَوَّلًا اسْتَهْلَكْتَهَا وَقَالَ الْمُودَعُ ضَاعَتْ، أَوْ رَدَدْتُ يَجُوزُ الصُّلْحُ فِي قَوْلِهِمْ إلَى هُنَا لَفْظُ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَهُوَ جَائِزٌ بِإِقْرَارٍ) قَالَ عَلَاءُ الدِّينِ الْعَالِمُ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ وَالْمُرَادُ بِجَوَازِ الصُّلْحِ اعْتِبَارُهُ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمُدَّعِي فِي بَدَلِ الصُّلْحِ وَانْقِطَاعِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبُطْلَانِ حَقِّ الدَّعْوَى فِي أَصْلِ الْمُدَّعَى وَالْكَلَامُ الْمَعْرُوفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا بَذْلُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي لِقِيَامِ أَمَارَةِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي حَقِّهِ وَبَذْلُ الْمَالِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ وَصِيَانَةِ النَّفْسِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَسُكُوتٍ) أَيْ وَهُوَ أَنْ لَا يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرَ اهـ وَوَجْهُ حَصْرِ الصُّلْحِ فِي الثَّلَاثَةِ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجِيبَ لِدَعْوَى الْمُدَّعِي، أَوْ لَا وَالثَّانِي هُوَ السُّكُوتُ وَالْأَوَّلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا فَانْحَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ لَا مَحَالَةَ. اهـ. (قَوْلُهُ «كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ» إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ هَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>