للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ مَعَ الْإِنْكَارِ وَالسُّكُوتِ لِمَا رَوَيْنَا، وَهَذَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ كَانَ حَلَالًا لِلدَّافِعِ حَرَامًا عَلَى الْآخِذِ فَبِالصُّلْحِ يَنْعَكِسُ الْأَمْرُ فَيَكُونُ حَرَامًا عَلَى الدَّافِعِ حَلَالًا عَلَى الْآخِذِ، أَوْ نَقُولُ إنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ كَانَ مُحِقًّا كَانَ أَخْذُ الْمُدَّعَى حَلَالًا لَهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَقَدْ كَانَ أَخْذُ الْمَالَ عَلَى الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ حَرَامًا عَلَيْهِ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَلَّ لَهُ بِالصُّلْحِ فَصَارَ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا؛ وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُ الْمَالَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا رِشْوَةٌ فَإِذَا كَانَ التَّمْلِيكُ رِشْوَةً كَانَ التَّمَلُّكُ قَبُولَ الرِّشْوَةِ إذْ لَا يَمْلِكُ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي مَلَكَ فَيَكُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَافِعًا لِدَفْعِ الظُّلْمِ وَالْمُدَّعِي آخِذًا لِتَرْكِ الظُّلْمِ قُلْنَا لَيْسَ هَذَا بِمُرَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الصُّلْحِ مَعَ الْإِقْرَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ يَقَعُ عَادَةً عَلَى مَا دُونَ حَقِّهِ فَمَا زَادَ عَلَى الْمَأْخُوذِ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ كَانَ حَلَالًا لِلْمُدَّعِي أَخْذُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ، وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَلَّ لَهُ ذَلِكَ بَعْدُ

وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا الْمَعْنَى لَمَا صَحَّ مُطْلَقًا بَلْ الْبَيْعُ أَيْضًا يَكُونُ حَرَامًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَالُهُ كَانَ حَلَالًا لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ الْمَشْرُوعَةِ فَيُؤَدِّي هَذَا إلَى تَحْرِيمِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ بِأَسْرِهَا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُسْتَبَاحَ بِالصُّلْحِ مَا لَيْسَ بِمُبَاحٍ شَرْعًا أَوْ يُحَرَّمَ مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ أَوْ تُصَالِحَ إحْدَى الضَّرَّتَيْنِ زَوْجَهَا عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الْأُخْرَى أَوْ أَمَتَهُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى زَعْمِهِمْ بِالصُّلْحِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَكَرَ الْحَرَامَ وَالْحَلَالَ مُطْلَقًا وَالْمُطْلَقُ مِنْهُمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا لِعَيْنِهِ

وَقَوْلُهُ رِشْوَةٌ وَتَمَلُّكُهُ قَبُولٌ لِلرِّشْوَةِ إلَى آخِرِهِ لَا يَسْلَمُ بَلْ هُوَ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي هُوَ عَيْنُ حَقِّهِ أَوْ بَدَلُهُ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُ أَخْذُهُ وَأَكْلُهُ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ أَيْضًا حَلَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يُخْلَقْ إلَّا لِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ أَجْوَزَ مَا يَكُونُ مِنْ الصُّلْحِ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الصُّلْحِ فِيهِ يَتَحَقَّقُ عَلَى التَّمَامِ، وَهُوَ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ وَالْفَسَادِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْهَا وَأَمَّا مَعَ الْإِقْرَارِ فَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ مَعْنَى الصُّلْحِ عَلَى التَّمَامِ إذْ لَيْسَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ حَتَّى يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى الصُّلْحِ بَلْ هُوَ اسْتِيفَاءٌ لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِسْقَاطٌ لِلْبَاقِيَّ إنْ أَخَذَ بَعْضَ حَقِّهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ خِلَافِهِ فَهُوَ بَيْعٌ عَنْ طَوْعٍ مِنْهُ وَاخْتِيَارٍ، وَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ رِشْوَةٌ فَهِيَ جَائِزَةٌ لِلدَّافِعِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي» الْمُرَادُ بِهِ إذَا كَانَ هُوَ الظَّالِمُ فَيَدْفَعُهَا إلَى بَعْضِ الظَّلَمَةِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الظُّلْمِ بِالرِّشْوَةِ

وَأَمَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَيْضًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْيَتِيمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَضِرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَرَقَ السَّفِينَةَ كَيْ لَا يَأْخُذَهَا الظَّالِمُ وَمَا كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ إلَّا الْإِصْلَاحَ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُصْلِحَ مِنْ الْمُفْسِدِ، وَقَوْلُهُ إذْ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي مَلَكَ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ اتِّحَادَ جِهَةِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ بَلْ قَدْ تَخْتَلِفُ الْجِهَةُ بَيْنَهُمَا كَمَنْ أَقَرَّ بِعِتْقِ عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَإِنَّهُ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ حَتَّى يُجْبَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى الثَّمَنِ فِدَاءٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي إذْ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى زَعْمِهِ، وَقِبْلَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ فِي التَّحَرِّي مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَالْخُلْعُ يَمِينٌ فِي حَقِّهِ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهَا، وَكَذَا الْفَسْخُ بِالْإِقَالَةِ فَإِنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ بِإِقْرَارٍ اُعْتُبِرَ بَيْعًا)؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ قَدْ وُجِدَ فِيهِ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ عَنْ تَرَاضٍ فَتَجْرِي فِيهِ أَحْكَامُ الْبُيُوعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الصُّلْحِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَشْبَهِ الْعُقُودِ لَهُ فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّورِ؛ وَلِهَذَا جُعِلَتْ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَيْعًا، وَالْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةً وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ الْأَصِيلُ كَفَالَةً ثُمَّ إذَا وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ يُنْظَرْ فَإِنْ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ الْمُدَّعَى فَهُوَ بَيْعٌ وَشِرَاءٌ كَمَا ذَكَرْنَا هُنَا، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنْ الْمُدَّعَى فَهُوَ حَطٌّ وَإِبْرَاءٌ، وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِهِ فَهُوَ قَبْضٌ وَاسْتِيفَاءٌ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ فَضْلٌ وَرِبًا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَتَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَالرَّدُّ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

( قَوْلُهُ «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِي» إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ) رَوَى مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ بِالْحَبَشَةِ فَرَشَا دِينَارَيْنِ قَالَ مُحَمَّدٌ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَلَيْسَ هَذَا بِسُحْتٍ إلَّا عَلَى مَنْ أَكَلَهُ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَاهُ لِمَنْفَعَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا إنْ رَشَا إنْسَانًا يَخَافُ ظُلْمَهُ وَحَبْسَهُ فَلَا بَأْسَ لِلرَّاشِي وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمُرْتَشِي قَالَ مُحَمَّدٌ بَلَغَنَا عَنْ الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ مَا وَجَدْنَا فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ، أَوْ زِيَادٍ، أَوْ ابْنِ زِيَادٍ شَيْئًا خَيْرًا لَنَا مِنْ الرِّشَا قَالَ مُحَمَّدٌ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ لِلْمُعْطِي؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ الظِّلَامَةَ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْآخِذِ إلَى هُنَا لَفْظُ كِتَابِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) رَوَاهُ أَبُو اللَّيْثِ وَبِهِ يُفْتَى. اهـ. مِعْرَاجٌ (قَوْلُهُ كَيْ لَا يَأْخُذُهَا الظَّالِمُ) أَجَازَ التَّعْيِيبَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى مَخَافَةَ أَخْذِ الْمُتَغَلِّبِ كَذَا فِي أَحْكَامِ الصَّفَّارِ وَفِي الْمُحِيطِ، وَلَوْ رَشَا لِدَفْعِ خَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ خَوْفًا عَلَى نِسَائِهِ، أَوْ أَعْطَى مَالَهُ لِشَاعِرٍ لَا بَأْسَ بِهِ. اهـ. مِعْرَاجٌ (قَوْلُهُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُصْلِحَ مِنْ الْمُفْسِدِ) كَذَا بِخَطِّ الشَّارِحِ لَمْ يُرِدْ الشَّارِحُ التِّلَاوَةَ وَلِذَا قَدَّمَ الْمُصْلِحَ اهـ

(قَوْلُهُ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ) أَيْ فَجِهَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِبْلَةٌ فِي حَقِّهِ وَلَا تَكُونُ قِبْلَةً فِي حَقِّ مَنْ تَوَجَّهَ إلَى غَيْرِهَا. اهـ. .

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ فَتَثْبُتُ بِهِ الشُّفْعَةُ) أَيْ إذَا كَانَ عَقَارًا اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>