التَّعَدِّي زَالَ الضَّمَانُ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَإِقْرَارِهِ بَعْدَ جُحُودِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَدِيعَةِ ارْتَفَعَ حِينَ صَارَ ضَامِنًا لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَا تَعُودُ الْأَمَانَةُ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فَصَارَ كَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَكَالْجُحُودِ وَلَنَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ مُطْلَقٌ فَيَتَنَاوَلُ الْأَوْقَاتِ كُلَّهَا فَإِذَا خَالَفَ فِي الْبَعْضِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ فَإِذَا رَجَعَ إلَى الْوِفَاقِ فِي غَيْرِهِ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ فَارْتَفَعَ الْخِلَافُ ضَرُورَةً فَتَعُودُ الْأَمَانَةُ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِلْحِفْظِ فِي مُدَّةٍ فَتَرَكَ الْحِفْظَ فِي بَعْضِهَا، ثُمَّ عَادَ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِقَدْرِهِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لِلْعَيْنِ إذَا تَعَدَّى فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ، ثُمَّ زَالَ التَّعَدِّي حَيْثُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ الضَّمَانِ إنَّمَا تَكُونُ بِإِعَادَةِ يَدِ الْمَالِكِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُمَا الْعَيْنَ كَانَ لِأَنْفُسِهِمَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ فَإِذَا تَرَكَا الْخِلَافَ لَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ إلَى صَاحِبِهَا لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا بِخِلَافِ الْمُودَعِ فَإِنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فِي الْحِفْظِ
فَإِذَا تَرَكَ الْخِلَافَ فَقَدْ رَدَّهَا إلَى يَدِ صَاحِبِهَا حُكْمًا فَبَرِئَ إذْ هُوَ نَائِبٌ عَنْهُ وَبِخِلَافِ الْجُحُودِ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ فَيَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ كَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ بِالْجُحُودِ يُنْتَقَضُ إيمَانُهُ فَلَا يَعُودُ مُسْلِمًا إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَبِالْمُخَالَفَةِ فِعْلًا لَا يُنْتَقَضُ حَتَّى إذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ صَحَّ، وَلِهَذَا جُحُودُ الْوَكِيلِ الْوَكَالَةَ يَكُونُ فَسْخًا، وَكَذَا جُحُودُ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْبَيْعَ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ بِحَضْرَتِهِ عَزَلَ نَفْسَهُ، وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ وَيَنْفَرِدُ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا طَالَبَهُ الْمُودِعُ فَقَدْ عَزَلَهُ فَيَكُونُ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِمْسَاكِ غَاصِبًا وَلَوْ عَادَ إلَى الْإِقْرَارِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَإِقْرَارِهِ بَعْدَ جُحُودِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ جَحَدَهَا عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبِهَا، أَوْ عِنْدَهُ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ حَالِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الرَّدَّ، أَوْ طَلَبَ مِنْهُ الرَّدَّ عِنْدَ مَنْ يَخَافُ عَلَيْهَا مِنْهُ فَجَحَدَهَا لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فَلَا يُعَدُّ إنْكَارًا وَلَا خِلَافًا، وَإِنَّمَا هُوَ إتْقَانٌ لِلْحِفْظِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ حَالَ غَيْبَتِهِ وَلَمْ يَعْزِلْهُ صَاحِبُهَا فَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ سَبَبُ الضَّمَانِ لِكَوْنِهِ إتْلَافًا حُكْمًا فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ كَالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً قُلْنَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إتْلَافًا إذَا أَرَادَ تَمَلُّكَهَا وَمُرَادُهُ هُنَا حِفْظُهَا بِقَطْعِ طَمَعِ الطَّامِعِينَ فَكَيْفَ يَكُونُ إتْلَافًا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ النَّهْيِ وَالْخَوْفِ) أَيْ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ إذَا لَمْ يَنْهَهُ الْمُودِعُ وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا بِالْإِخْرَاجِ، وَهَذَا عَلَى إطْلَاقِهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَهُ الْخُرُوجُ بِهَا إلَى مَسَافَةٍ قَصِيرَةٍ، وَإِنْ طَالَتْ لَا يَخْرُجُ بِمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَصِيرَةَ لَا يُخَافُ فِيهَا عَادَةً؛ وَلِهَذَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ السَّفَرَ الْقَصِيرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَخْرُجُ بِمَالِهِ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ وَرُبَّمَا تَسْتَغْرِقُ الْمُؤْنَةُ الْوَدِيعَةَ، وَفِيهِ إهْلَاكُهَا فَلَا يَجُوزُ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ إخْرَاجُ الْمَبِيعِ فَإِنْ أَخْرَجَ ضَمِنَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ الْحِفْظُ فِي الْأَمْصَارِ عَادَةً وَصَارَ كَالِاسْتِحْفَاظِ بِأَجْرٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَمْرَ صَدَرَ مُطْلَقًا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِالزَّمَانِ، وَالْمَفَازَةُ مَحَلٌّ لِلْحِفْظِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَالْكَلَامُ فِيهِ فَصَارَ كَالْمِصْرِ؛ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي مَالِ الصَّغِيرِ مَعَ أَنَّ وِلَايَتَهُمَا نَظَرِيَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: ١٥٢] وَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ الْأَحْسَنِ لَمَا جَازَ ذَلِكَ لَهُمَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَوْدَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ تَتَقَوَّمُ فِي تَصَرُّفِهِمَا حَتَّى لَا يَنْفُذَ بَيْعُهُمَا بِمِثْلِهَا وَزْنًا لِعَدَمِ النَّظَرِ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مَأْمُورٌ بِالْبَيْعِ لَا بِالْحِفْظِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحِفْظُ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ إلَّا بَعْدَ حِفْظِهِ وَالِاسْتِحْفَاظُ بِأَجْرٍ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ وَمَا يَلْزَمُ الْآمِرَ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّدِّ ضَرُورَةَ صِحَّةِ أَمْرِهِ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ إضْرَارًا بِهِ وَالْمُعْتَادُ كَوْنُهُمْ فِي الْمِصْرِ لَا حِفْظُهُمْ فِيهِ وَمَنْ يَكُونُ فِي الْمَفَازَةِ يَحْفَظُ مَالَهُ فِيهَا كَأَهْلِ الْأَخْبِيَةِ، وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مُخِيفًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا إنْ كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ بِأَنْ سَافَرَ مَعَ أَهْلِهِ لَا يَضْمَنُ وَلَوْ نَهَاهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا مِنْ الْمِصْرِ فَخَرَجَ بِهَا ضَمِنَ إنْ كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ؛ لِأَنَّ الْمِصْرَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
الْبَرَاءَةِ وَالْبَرَاءَةُ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْوُجُوبِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْمَتْنِ، وَإِنْ تَعَدَّى مَا نَصُّهُ بِأَنْ كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أَوْ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ أَوْ أَوْدَعَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ اهـ هِدَايَةٌ (قَوْلُهُ وَلَا تَعُودُ الْأَمَانَةُ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ) وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا اعْتَبَرَا الْخِلَافَ فِعْلًا بِالْخِلَافِ قَوْلًا فَإِذَا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ ثُمَّ أَقَرَّ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ فَكَذَا هُنَا. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَالْمُسْتَأْجِرُ لِلْعَيْنِ إذَا تَعَدَّى إلَخْ) بِأَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَان مُعَيَّنٍ ثُمَّ جَاوَزَهُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْرَأُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا لَا جَائِيًا لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْتَهَى بِالْوُصُولِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَبِالْعَوْدِ إلَيْهِ لَا يَعُودُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا. اهـ. (قَوْلُهُ أَوْ عِنْدَهُ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ حَالِهَا) وَخَصَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ وَكَذَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِمَا أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي مَبْسُوطِ مُحَمَّدٍ وَفِيمَا ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ فَأَوْرَدَهُ كَذَلِكَ اهـ مِعْرَاجٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute