للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَيْ لَا تُمْلَكُ الْأُجْرَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ أَوْ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي الْمُدَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيَجِبُ تَسْلِيمُهَا عِنْدَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْبَدَلَيْنِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْدُومَةَ عِنْدَهُ جُعِلَتْ مَوْجُودَةً حُكْمًا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ»

وَلِلشَّارِعِ جَعْلُ الْمَعْدُومِ حَقِيقَةً مَوْجُودًا حُكْمًا كَمَا جَعَلَ النُّطْفَةَ فِي الرَّحِمِ كَالْحَيِّ حُكْمًا فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ، وَكَذَا يَجْعَلُ الْمَوْجُودَ حَقِيقَةً كَالْمَعْدُومِ حُكْمًا كَمَا جَعَلَ الْمُرْتَدَّ الْمُلْتَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مَيِّتًا فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ كَالْإِرْثِ وَعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَالْمَوْجُودِ جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ مَعْدُومًا وَلَمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَهُوَ حَرَامٌ شَرْعًا وَلَنَا أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ بِتَقَابُلِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمِلْكِ وَالتَّسْلِيمِ، وَأَحَدُ الْبَدَلَيْنِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَعْدُومِ فَكَذَا فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ

وَلَوْ مَلَكَ الْأُجْرَةَ لَمَلَكَهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ فَتَأَخُّرُ الْمِلْكِ فِيهِ ضَرُورَةٌ وَجَوَازُ الْعَقْدِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَعْدُومَ جُعِلَ مَوْجُودًا حُكْمًا وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَالْمَوْجُودُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لَا يَقْبَلُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّهُ عَرْضٌ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّسْلِيمُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَمَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّسْلِيمُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَفِي حَقِّ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ إذْ الْعَيْنُ هِيَ الَّتِي يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا دُونَ الْعَرْضِ فَانْعَقَدَ فِي حَقِّهَا فِي الْحَالِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا وَصَارَ الْعَقْدُ مُضَافًا غَيْرَ مُنْعَقِدٍ لِلْحَالِ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ أَقْصَى مَا يُتَصَوَّرُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُضَافًا إلَى وَقْتِ حُدُوثِهَا فَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ عَلَى حَسَبِ وُجُودِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا قَامَتْ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ فِي حَقِّ الِانْعِقَادِ وَالتَّسْلِيمِ ضَرُورَةَ عَدَمِ تَصَوُّرِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ

وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلِ إذَا مَا ثَبَتَ لِلضَّرُورَةِ يَثْبُتُ بِقَدْرِهَا فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ مِلْكِ الْبَدَلِ كَمَا لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ مُضَافًا إلَى وَقْتِ حُدُوثِهَا غَيْرَ مُنْعَقِدٍ لِلْحَالِ فِي حَقِّهِمَا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ فِيهِ قَلْبَ الْحَقَائِقِ وَهُوَ جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا وَمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا إقَامَةُ السَّبَبِ وَهُوَ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّغْيِيرِ مَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ أَقَامَ السَّفَرَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا وَأَقَامَ الْبُلُوغَ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ حَتَّى عَلَّقَ التَّكْلِيفَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، وَإِنَّمَا جَازَ الِاسْتِئْجَارُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ تَصِرْ الْمَنْفَعَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَجِبُ بَدَلُهَا أَيْضًا

وَعِنْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِيهَا

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

مِنْهَا الْمَنَافِعُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ لَا تَسْلِيمَ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ عَيْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا يُتَصَوَّرُ فَقَامَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ التَّسْلِيمُ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا

وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّسْلِيمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمَتَى تَحَقَّقَ التَّسْلِيمُ الْمُسْتَحَقُّ وَجَبَ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعُ بِهَا كَمَا إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَان مَعْلُومٍ لِيَرْكَبَهَا فَذَهَبَ بِهَا وَلَمْ يَرْكَبْهَا وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهَا شَيْئًا فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَجْرُ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا فَسَلَّمَ الْمُؤَجِّرُ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ وَمَضَتْ الْمُدَّةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ سَكَنَ الدَّارَ أَوْ لَمْ يَسْكُنْ إلَّا إذَا مَنَعَهُ مَانِعٌ مِنْ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ فَأَخْرَجَهُ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ. إلَى هُنَا لَفْظُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

وَقَالَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ فَسَلَّمَهَا الْمُؤَجِّرُ وَأَمْسَكَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِبَغْدَادَ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ الْمَسِيرُ فِيهَا إلَى الْكُوفَةِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ وَإِنْ سَاقَهَا مَعَهُ إلَى الْكُوفَةِ وَلَمْ يَرْكَبْهَا وَجَبَتْ الْأُجْرَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجِبُ الْأُجْرَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ دَلِيلُنَا أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَسَافَةٍ فَالتَّسْلِيمُ فِي غَيْرِهَا لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْبَدَلَ كَمَا لَوْ وَقَعَ عَلَى مُدَّةٍ فَسَلَّمَ فِي غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْبَدَلَ، فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَبَضَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ وَتَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَقِرَّ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِ. أَصْلُهُ إذَا اسْتَأْجَرَهَا شَهْرًا لِلرُّكُوبِ قِيلَ لَهُ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ وَالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمُدَّةِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا وَقَعَ عَلَى الْعَمَلِ

وَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِلْخِيَاطَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَاهُنَا قُيُودًا لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ أَحَدُهَا التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْمُدَّةِ حَتَّى إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ أَوْ تَمَكَّنَ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ، وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ فِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى لَا يَجِبُ الْأَجْرُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ فَإِنَّ الْأُجْرَةَ فِيهَا تَجِبُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ (قَوْلُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ عَلَاءُ الدِّينِ الْعَالِمُ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ وَهُوَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلْمُؤَجِّرِ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِهَا فِي الْحَالِ وَلَوْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَبْدًا وَهُوَ قَرِيبُهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ اهـ

(قَوْلُهُ فَلَمْ تَصِرْ الْمَنْفَعَةُ دَيْنًا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ فَإِنْ قِيلَ لَوْ لَمْ تُمْلَكْ الْمَنَافِعُ يَلْزَمُ الِافْتِرَاقُ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ قُلْنَا لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَزِمَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فَلَمَّا جَازَ التَّفَرُّقُ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا بِدَيْنٍ بَطَلَ مَا قَالُوا، اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>