للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَ أُوقِيَّاتٍ فَهُوَ رَقِيقٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ الْعِوَضُ فَلَا يُسَلِّمْ لِلْعَبْدِ الْمُعَوَّضَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهِ فَمَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَعْتِقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ وَبِهِ يَسْتَوِيَانِ فِيمَا يُسَلَّمُ لَهُمَا مِنْ الْبَدَلِ

وَمَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ يَعْتِقُ إذَا أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ عَنْ الْمَوْلَى وَالْبَاقِي دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيَكُونُ الْبَدَلُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَأَنَّهُ جَعَلَ الْكِتَابَةَ وَارِدَةً عَلَى الذِّمَّةِ كَالْعِتْقِ وَمَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْكُلَّ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ لِمَا رَوَيْنَا، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ بَعْضُ أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ الْمَوْلَى إذَا أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَعْتِقُ إلَّا إذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَ فِيهَا إلَّا ضَرْبُ الْمَالِ عَلَى عَبْدِهِ مُنَجَّمًا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْعِتْقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ لِيَقَعَ الْعِتْقُ عِنْدَهُ قُلْنَا مُوجَبُ الْكِتَابَةِ هُوَ الْعِتْقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ الْجَمْعِ وَهُوَ الْجَمْعُ لِحُرِّيَّةِ الْيَدِ إلَى حُرِّيَّةِ الرَّقَبَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ

وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ ضَمِّ نَجْمٍ إلَى نَجْمٍ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ عَلَى عَبْدِهِ مَالًا عَلَى نُجُومٍ لَا يُسَمَّى مُكَاتَبًا وَلَا يَثْبُتُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ وَنَهْيُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ وَيَمْلِكُ أَخْذَ كَسْبِهِ بِلَا إذْنِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لِتَعْلِيقِ الْعِتْقِ فِي ثُبُوتِ أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ لَا يَثْبُتُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَكَذَا إذَا عَلَّقَهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ بِأَنْ قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ تَثْبُتُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَكَذَلِكَ الْعِتْقُ يَثْبُتُ بِهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَعْتِقَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَثْبُتُ عَقِيبَهُ لَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ بِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ لَوْ عَتَقَ كَانَ الْمَوْلَى يَتَضَرَّرُ بِخُرُوجِ عَبْدِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِعِوَضٍ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ

وَنَظِيرُ مَا قُلْنَا فِي الْإِجَارَةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَالِ تَأَخَّرَ مِلْكُ الْبَدَلِ أَيْضًا اعْتِبَارًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِ حَطُّ رُبْعِ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: ٣٣] أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ وَلَنَا أَنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ الْبَدَلَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِإِسْقَاطِهِ إذْ الْعَقْدُ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا وَضِدُّهُ كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَوَجَبَ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي الْآيَةِ النَّدْبُ دُونَ الْحَتْمِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لِلنَّدْبِ فَكَذَا هَذَا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْقُرْآنِ فِي النَّظْمِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: ٤٣] لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ بِكَلِمَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ لَا ارْتِبَاطَ لِأَحَدِهِمَا بِالْأُخْرَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِحُكْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى حُكْمِ الْأُخْرَى أَمَّا هُنَا فَالثَّانِيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُولَى إذْ الْبَدَلُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْأُولَى هُوَ الْبَدَلُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ

وَعَنْ الْكَلْبِيِّ الْمُرَادُ بِالْإِيتَاءِ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِمْ رَوَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَفْظُ الْإِيتَاءِ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّمْلِيكِ لَا لِلْحَطِّ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ هُوَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: ١٧٧] فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ دَفْعُ الصَّدَقَةِ بَعْدَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي الْآيَةِ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَالْقِرَانَ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَكَذَا إذَا قَالَ جَعَلْت عَلَيْك أَلْفًا تُؤَدِّيهِ نُجُومًا أَوَّلَ النَّجْمُ كَذَا وَآخِرُهُ كَذَا، فَإِذَا أَدَّيْته فَأَنْتَ حُرٌّ وَإِلَّا فَقِنٌّ) يَعْنِي يَكُونُ مُكَاتَبًا بِهَذَا الْقَوْلِ مِثْلَ مَا يَكُونُ مُكَاتَبًا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ مُكَاتَبًا بِهِ؛ لِأَنَّ النُّجُومَ فُصُولُ الْأَدَاءِ وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَ عَلَى عَبْدِهِ مَا شَاءَ مِنْ الْمَالِ فِيمَا شَاءَ مِنْ الْمُدَّةِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَدَّيْته فَأَنْتَ حُرٌّ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْكِتَابَةَ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي دُونَ الْأَلْفَاظِ حَتَّى كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمُضَارِبِ قَرْضًا وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ بِضَاعَةً، وَقَدْ أَتَى بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ هُنَا مُفَسَّرًا فَيَنْعَقِدُ بِهِ كَمَا إذَا أَطْلَقَ الْكِتَابَةَ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُفَسَّرَ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ إلَى آخِرِ» الْحَدِيثِ) وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَم هـ أَتْقَانِيٌّ.

(قَوْلُهُ وَمَذْهَبُ زَيْدٍ إلَخْ) وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ مِثْلُ قَوْلِ زَيْدٍ كَذَا فِي شَرَحَ الْأَقْطَعِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.

(قَوْلُهُ كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ اهـ.

(قَوْلُهُ لَا ارْتِبَاطَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ لَا ارْتِبَاطَ لِأَحَدِهِمَا فِي الْأُخْرَى (قَوْلُهُ وَعَنْ الْكَلْبِيِّ الْمُرَادُ بِالْإِيتَاءِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَلَا حُجَّةَ لِلْخَصْمِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: ٣٣]؛ لِأَنَّ مَالَ الْكِتَابَةِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مَالِ اللَّهِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى أَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ وَأُجْرَةِ الْإِجَارَاتِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ مَالُ اللَّهِ عَلَى أَمْوَالِ الْقُرَبِ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْعُشْرِ وَخُمْسِ الْغَنِيمَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِإِعْطَاءِ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ صَدَقَاتِنَا لِيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ الْكِتَابَةِ. اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>