للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَسَأَلَهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَقَالَ كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكِيَاسَةِ فِي التِّجَارَةِ فَاسْتَدَلَّ بِرَغْبَتِهِ أَنَّهُ لَا غَبْنَ فِي تَصَرُّفِهِ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ بِهَذَا السَّبَبِ وَأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَتَصَدَّقُ بِمَالِهَا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهَا كَانَ لَهَا رِبَاعٌ فَهَمَّتْ بِبَيْعِ رِبَاعِهَا لِلتَّصَدُّقِ بِالثَّمَنِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَأَنْهَيَنَّ عَائِشَةَ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا لِلتَّصَدُّقِ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ النَّظَرَ لَهُ وَاجِبٌ حَقًّا لِإِسْلَامِهِ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ لَا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ وَالْحِكْمَةُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ فَصَارَ كَالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ لِتَوَهُّمِ التَّبْذِيرِ، وَهَذَا قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مَالُهُ فِي الِابْتِدَاءِ إجْمَاعًا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ وَمَنْعُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ عَلَيْهِ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ يَدِهِ يُتْلِفُهُ بِلِسَانِهِ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ مَنْ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا «قِيلَ لَهُ اُحْجُرْ عَلَيْهِ»

وَلِأَنَّهُ عَاقِلٌ كَامِلُ الْعَقْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ بِخِلَافِ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ فَإِنَّهُمَا نَاقِصَا الْعَقْلِ وَلِهَذَا لَمْ يُكَلَّفَا فَلَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ لَكَانَ رَفْعُ التَّكْلِيفِ أَنْظَرَ لَهُ فَحَيْثُ كَلَّفَهُ الشَّارِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ لَهُ فَكَيْفَ يَنْظُرُ لَهُ وَهُوَ كَامِلُ الْعَقْلِ وَالتَّقْصِيرُ مِنْ جِهَتِهِ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ وَقِلَّةِ تَدْبِيرِهِ مُكَابِرًا لِعَقْلِهِ وَمُتَابِعًا لِهَوَاهُ وَلِأَنَّ فِي حَجْرِهِ إلْحَاقَهُ بِالْبَهَائِمِ وَإِهْدَارَ آدَمِيَّتِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ التَّبْذِيرِ وَلَا يَتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْحَجْرِ دَفْعُ ضَرَرٍ عَامٍّ يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ.

وَذَلِكَ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِلِ بِأَنْ يَسْقِيَهُمْ دَوَاءً مُهْلِكًا أَوْ إذَا قَوِيَ عَلَيْهِمْ الدَّوَاءُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَةِ ضَرَرِهِ وَكَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَهُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْعَوَامَّ الْحِيَلَ الْبَاطِلَةَ كَتَعْلِيمِ الِارْتِدَادِ لِتَبِينَ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ لِتَسْقُطَ عَنْهَا الزَّكَاةُ وَلَا يُبَالِي بِمَا يُفْعَلُ مِنْ تَحْلِيلِ الْحَرَامِ أَوْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَكَالْحَجْرِ عَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ وَهُوَ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْكِرَاءَ وَيُؤَجِّرُ الْجِمَالَ وَلَيْسَ لَهُ جَمَالٌ وَلَا ظُهْرٌ يَحْمِلُ عَلَيْهَا وَلَا لَهُ مَالٌ يَشْتَرِي بِهِ الدَّوَابَّ وَالنَّاسُ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُونَ الْكِرَاءَ إلَيْهِ وَيَصْرِفُ هُوَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ فِي حَاجَتِهِ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْخُرُوجِ يَخْتَفِي فَتَذْهَبُ أَمْوَالُ النَّاسِ وَتَفُوتُ حَاجَتُهُمْ مِنْ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْخَاصِّ وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ لِعَدَمِ الِاسْتِوَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْلَغُ فِي الْعُقُوبَةِ مِنْ مَنْعِ الْمَالِ وَمَنْعُ الْمَالِ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَتْلَفُ بِتَصَرُّفَاتِهِ بِأَنْ لَا يَهْتَدِيَ إلَيْهَا لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ فَيُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ فَيَخْسَرُ أَوْ بِالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ أَوْ بِأَنْ يَجْمَعَ أَصْحَابَهُ مِنْ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالشَّرِّ وَيُطْعِمَهُمْ وَيَسْقِيَهُمْ وَيُسْرِفَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا لَمْ يُسْلَمْ إلَيْهِ مَالُهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: ٥] أَمْوَالُنَا لَا أَمْوَالُ السُّفَهَاءِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنْ نُطْعِمَهُمْ وَنَكْسُوهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا وَلَا نُسَلِّمُهُ إلَيْهِمْ وَالْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الذَّرَارِيِّ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ إذَا سُلِّمَ إلَيْهِمْ الْمَالُ ضَيَّعُوهُ.

هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَشْهَدُ لِذَلِكَ حَيْثُ أُضِيفَ الْمَالُ إلَيْنَا لَا إلَى السُّفَهَاءِ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَمْوَالَهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الصِّغَارَ وَالْمَجَانِينَ فَلَا يَلْزَمُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: ٦] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الصِّغَارَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ تُبَادِرُونَ كِبَرَهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرُوا فَلَا يَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ بَعْدَ الْكِبَرِ وَهُوَ الْبُلُوغُ فَتُنْزَعُ الْأَمْوَالُ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِالْكِبَرِ وَهَذَا يَشْهَدُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ بِالْكِبَرِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} [البقرة: ٢٨٢] الْآيَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ هُوَ الْخَفِيفُ لُغَةً وَذَلِكَ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ كَالصَّبِيِّ أَوْ بِعَدَمِهِ كَالْمَجْنُونِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ ثُمَّ قَالَ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ السَّفِيهَ إذَا طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ تَزَوَّجَ تَصِحُّ مِنْهُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ فَلَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ تَصَرُّفَاتُهُ أَصْلًا لِسَلْبِ وِلَايَتِهِ، فَإِذَا صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِي النَّفْسِ وَهِيَ الْأَصْلُ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ التَّبَعُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَنَقُولُ هَذَا حُرٌّ مُخَاطَبٌ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيذِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ وَلَا يَنْحَجِرُ قِيَاسًا عَلَى الْمُصْلِحِ لِمَالِهِ وَعَلَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَعَلَى تَصَرُّفٍ يَتَّصِلُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ حُرًّا مُخَاطَبًا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكًا قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ دَلِيلُ اعْتِبَارِ عَقْلِهِ وَالْعَقْلُ دَلِيلٌ (قَوْلُهُ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ) أَيْ لَا خِدَاعَ وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ فَقُلْ «لَا خِيَابَةَ» بِالْيَاءِ كَأَنَّهَا لُثْغَةٌ مِنْ الرَّاوِي أَبْدَلَ اللَّامَ يَاءً. اهـ. ابْنُ الْأَثِيرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمَعْتُوهِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْتُوهَ الْبَالِغَ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ أَمْ لَا فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ مَالَ إلَى الْوُجُوبِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ مَالَ إلَى السُّقُوطِ اهـ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْحَاشِيَةُ قَبْلَ هَذِهِ بِسِتَّةِ قَوْلَاتٍ فِي قَوْلِهِ وَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ إلَخْ فَانْظُرْهُ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ هُنَاكَ (قَوْلُهُ وَكَالْحَجَرِ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ) ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ وَالْمُفْتِي الْجَاهِلُ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُمَا عَامٌّ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ الْمَاجِنِ مَا نَصُّهُ قَالَ فِي الْجَمْهَرَةِ مَجَنَ الشَّيْءُ يَمْجُنُ مُجُونًا إذَا صَلُبَ وَغَلُظَ وَقَوْلُهُمْ رَجُلٌ مَاجِنٌ كَأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ غِلَظِ الْوَجْهِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ مَحْضٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ

<<  <  ج: ص:  >  >>