للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالصَّغِيرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَمْيِيزٌ أَوْ نَقُولُ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَنْفُذَ تَصَرُّفُ السَّفِيهِ فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ هُوَ الَّذِي لَزِمَهُ بِمُدَايَنَةِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: ٢٨٢] ثُمَّ قَالَ {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: ٢٨٢] يَعْنِي الْحَقَّ الَّذِي لَزِمَهُ بِتِلْكَ الْمُدَايَنَةِ ثُمَّ قَالَ {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} [البقرة: ٢٨٢] أَيْ الْحَقُّ الَّذِي لَزِمَهُ بِمُدَايَنَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: ٢٨٢] وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ لَزِمَهُ بِمُعَامَلَتِهِ، ثُمَّ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْإِمْلَالِ لِعَدَمِ هِدَايَتِهِ إلَى الْحِسَابِ أَوْ لِقِلَّةِ مُمَارَسَتِهِ بِالْإِمْلَالِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى فَصَاحَةٍ وَتَأْلِيفِ كَلَامٍ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُمِلَّ عَنْهُ غَيْرُهُ بِإِخْبَارِهِ هُوَ وَإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى هَذَا الْيَوْمَ فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لَا يُؤَلِّفُ كَلَامًا يُمِلُّهُ وَإِنَّمَا يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ ثُمَّ يُؤَلِّفُ غَيْرَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ دَلِيلٌ لَنَا؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امْتَنَعَ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَعَ سُؤَالِ عَلِيٍّ وَكَلَامُ عَلِيٍّ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ لَهُ.

وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - دَلِيلٌ لَنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا بَلَغَهَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا فَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمَا اسْتَجَازَتْ هَذَا الْحَلِفَ مِنْ نَفْسِهَا مُجَازَاةً عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ تُفْنِيَ مَالَهَا فَتُبْتَلَى بِالْفَقْرِ فَتَصِيرُ عِيَالًا عَلَى غَيْرِهَا وَالْمَصِيرُ إلَى هَذَا أَوْلَى لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنْ نِسْبَةِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ إلَى الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - لَا سِيَّمَا مِثْلَ عَائِشَةَ وَهِيَ أَكْرَمُ أَهْلِ الْبَيْتِ الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الرِّجْسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ التَّبْذِيرُ وَالْمُبَذِّرُونَ إخْوَانُ الشَّيَاطِينِ وَمَا الْقَائِلُ لِذَلِكَ إلَّا مُكَابِرٌ نَفْسَهُ وَجَاحِدٌ لِلنُّصُوصِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَقَةِ وَالنُّصْحِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «ذَكَرَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ مَنْ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ»، وَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا لَحَجَرَ عَلَيْهِ، وَفِيمَا رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فَأَتَى أَهْلُهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُحْجُرْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ، وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ فَدَعَاهُ فَنَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ فَقَالَ إنْ كُنْت غَيْرَ تَارِكٍ لِلْبَيْعِ فَقُلْ هَاءَ وَهَاءَ وَلَا خِلَابَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ الْحَجْرَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَأَنَّ نَهْيَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ إذْ لَوْ كَانَ عَزِيمَةً لَمَا وَسِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ وَلَا كَانَتْ بِيَاعَاتُهُ تَلْزَمُ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ مُنْقِذًا سُفِعَ فِي رَأْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَأْمُومَةً فَحَبَلَتْ لِسَانَهُ فَكَانَ إذَا بَايَعَ يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَايِعْ وَقُلْ لَا خِلَابَةَ ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَسَمِعْته يُبَايِعُ وَيَقُولُ لَا خِلَابَةَ لَا خِدَابَةَ» رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ هُوَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ «رَجُلًا قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسِهِ فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ فَكَانَ لَا يَدَعُ عَلَى ذَلِكَ التِّجَارَةَ وَكَانَ لَا يَزَالُ يُغْبَنُ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ إذَا أَنْتَ بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ إنْ رَضِيت فَأَمْسِكْ وَإِنْ سَخِطْت فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى.

ثُمَّ لَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَرَفَعَ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ عَنْهُ جَازَ إطْلَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْأَوَّلِ فَتْوَى وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ بِالْقَضَاءِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءً فَنَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْضَاءِ يَعْنِي حَتَّى يَلْزَمَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ لَا يَلْزَمُ وَلَا يَصِيرُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَنْ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَوْجُودًا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَيَتَأَكَّدُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ بِالْقَضَاءِ فَلَا يُنْقَضُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ فَبِالْقَضَاءِ يَحْصُلُ الِاخْتِلَافُ فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ آخَرَ لِيَصِيرَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ لِقَضَائِهِ بَعْدَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ وَهَذَا مَعْنَاهُ وَلَكِنْ فِيهِ إشْكَالٌ هُنَا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرَى حَجْرَهُ بِنَفْسِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ وَالْمُبَذِّرُونَ إخْوَانُ الشَّيَاطِينِ) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ الشَّيْطَانِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجِيِّ اهـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِصَابَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي الْقِصَّةِ هَلْ وَقَعَتْ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ أَوْ لِأَبِيهِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو. اهـ. (قَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْضَاءِ) أَيْ حَتَّى لَوْ رُفِعَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَى الْقَاضِي الْحَاجِرِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَقَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ نَفَذَ إبْطَالُهُ لِاتِّصَالِ الْإِمْضَاءِ بِهِ وَلَا يُقْبَلُ النَّقْضُ بَعْدَ ذَلِكَ. اهـ. هِدَايَةٌ (قَوْلُهُ وَهَذَا مَعْنَاهُ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ اهـ.

(قَوْلُهُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرَى حَجْرَهُ بِنَفْسِ السَّفَهِ) كَمَا سَيَأْتِي فِي الصَّفْحَةِ الْآتِيَةِ مِنْ الشَّرْحِ اهـ قَالَ الصَّدْرُ الْكَبِيرُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْأَجَلُّ صَاحِبُ الْمُحِيطِ الْكَبِيرِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَهْلٍ الْمَعْرُوفِ بِمَازَهْ فِي طَرِيقَتِهِ الْمُطَوَّلَةِ: الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ لِمَالِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ ثُمَّ إنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ السَّفِيهَ إذَا بَلَغَ بَلَغَ مَحْجُورًا أَوْ مُطْلَقًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَ مَحْجُورًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَجْرِ الْقَاضِي وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَبْلُغُ مُطْلَقًا وَيَحْتَاجُ إلَى حَجْرِ الْقَاضِي وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ عَنْهُ الْمَالُ إلَى أَنْ يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُمْنَعُ عَنْهُ مَا دَامَ السَّفَهُ قَائِمًا إلَى هُنَا لَفْظُ الطَّرِيقَةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ

<<  <  ج: ص:  >  >>