إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِبَعْضِهِمْ يُمْنَعُ غَرَضُهُ فِي مِلْكِهِ، وَأَمَّا النُّقُودُ فَوَسَائِلُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الْمَالِيَّةُ دُونَ الْعَيْنِ فَافْتَرَقَا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَمْ يُبَعْ عَرْضُهُ وَعَقَارُهُ) أَيْ لَا يَبِيعُ الْقَاضِي عَرْضَ الْمَدِينِ وَعَقَارَهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَبْدَأُ الْقَاضِي بِبَيْعِ النُّقُودِ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلتَّقَلُّبِ وَلَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهَا فَيَكُونُ بَيْعُهَا أَهْوَنَ عَلَى الْمَدِينِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بَاعَ الْعُرُوضَ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُعَدُّ لِلتَّقَلُّبِ وَالِاسْتِرْبَاحِ فَلَا يَلْحَقُهُ كَبِيرُ ضَرَرٍ فِي بَيْعِهَا فَإِنْ لَمْ يَفِ ثَمَنُهَا بِالدَّيْنِ بَاعَ الْعَقَارَ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ يُعَدُّ لِلِاقْتِنَاءِ فَيَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِبَيْعِهِ فَلَا يَبِيعُهُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَهَذَا نَظِيرُ صَرْفِ الدَّيْنِ إلَى أَمْوَالِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ أَوَّلًا إلَى النَّقْدَيْنِ ثُمَّ إلَى الْعُرُوضِ ثُمَّ إلَى الْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ قَضَاءً وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَبْدَأُ الْقَاضِي بِبَيْعِ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى مِنْ عُرُوضِهِ ثُمَّ مَا لَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ مِنْهُ ثُمَّ يَبِيعُ الْعَقَارَ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَاضِيَ نُصِبَ نَاظِرًا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَدِينِ كَمَا يَنْظُرُ إلَى الدَّائِنِ فَيَبِيعَ مَا كَانَ أَنْظَرَ إلَيْهِ، وَبَيْعُ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ أَنْظَرُ لَهُ وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ بِهِ كِفَايَةً، وَقِيلَ يُتْرَكُ لَهُ دَسْتَانِ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَسَلَ ثِيَابَهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَلْبَسٍ وَقَالُوا إذَا كَانَ لِلْمَدِينِ ثِيَابٌ يَلْبَسُهَا وَيَكْتَفِي بِدُونِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَبِيعُ ثِيَابَهُ وَيَقْضِي الدَّيْنَ بِبَعْضِ ثَمَنِهَا وَيَشْتَرِي بِمَا بَقِيَ ثَوْبًا يَلْبَسُهُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ فَرْضٌ عَلَيْهِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ التَّجَمُّلِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَجْتَزِئَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ يَبِيعُ ذَلِكَ الْمَسْكَنَ وَيَقْضِي بِبَعْضِ ثَمَنِهِ الدَّيْنَ وَيَشْتَرِي بِالْبَاقِي مَسْكَنًا يَكْفِيهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَبِيعُ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ حَتَّى يَبِيعَ اللِّبَدَ فِي الصَّيْفِ وَالنِّطَعَ فِي الشِّتَاءِ وَإِنْ أَقَرَّ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ بِمَالٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ حَقُّ الْأَوَّلِينَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لِغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَ مَالًا لِغَيْرِهِمْ حَيْثُ يُزَاحِمُهُمْ صَاحِبُ الْمَالِ الْمُسْتَهْلَكِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ وَالْحَجْرُ لَا يَصِحُّ فِي الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَهُوَ مُشَاهَدٌ فَيُشَارِكُهُمْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ شَرْعِيٌّ فَأَمْكَنَ الْحَجْرُ فِيهِ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُشَاهَدٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَيُرَدُّ إقْرَارُهُ لِلتُّهْمَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ ثَابِتًا عِنْدَ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ.
وَلَوْ اسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ لِصِيَانَةِ مَحَلِّ قَضَاءِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَحُقُّهُمْ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ الْقَائِمِ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْحَجْرِ لَا بِالْمُسْتَفَادِ بَعْدَهُ وَيُنْفَقُ عَلَى الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَذَوِي أَرْحَامِهِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ الْأَصْلِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِفْلَاسٍ) أَيْ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِفْلَاسِ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يَظْهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَبْسَ وَمَا يُحْبَسُ فِيهِ مِنْ الدُّيُونِ وَكَيْفِيَّةَ الْحَبْسِ وَقَدْرَهُ وَبِدَيْنِ مَنْ يُحْبَسُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ إذَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ بَلْ يُلَازِمُونَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ» أَرَادَ بِالْيَدِ الْمُلَازَمَةَ وَبِاللِّسَانِ التَّقَاضِي وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ، وَلَوْ قَدَّمَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْقَضَاءِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ لِأَحَدٍ حَقٌّ فِي مَالِهِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَهُ أَنْ يُؤْثِرَ مَنْ شَاءَ مِنْ غُرَمَائِهِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَعَزَاهُ إلَى الذَّخِيرَةِ وَذَاكَ إلَى فَتَاوَى النَّسَفِيِّ وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ حَالَةَ الْمُلَازَمَةِ وَلَا يُجْلِسُونَهُ فِي مَكَان؛ لِأَنَّهُ حَبْسٌ بَلْ يَدُورُ هُوَ حَيْثُ شَاءَ وَيَدُورُونَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّحْصِيلِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْحَبْسُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْهُ وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لِحَاجَتِهِ.
قَالَ فِي الْهِدَايَةِ لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ يَحْبِسُهُ عَلَى بَابِ الدَّارِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الدُّخُولِ كَيْ لَا يَخْتَفِيَ أَوْ يَهْرُبَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَيُفَوِّتَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُلَازَمَةِ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَمْنَعَ الْمَلْزُومَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَيْتِهِ لِغَائِطٍ أَوْ غَدَاءٍ إلَّا إذَا أَعْطَاهُ الْغَدَاءَ أَوْ أَعَدَّ لَهُ مَوْضِعًا آخَرَ لِأَجْلِ الْغَائِطِ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَهْرُبَ، وَفِيهِ إذَا كَانَ عَمَلُ الْمَلْزُومِ سَقْيَ الْمَاءِ وَنَحْوَهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ أَوْ يُلْزِمَهُ نَائِبَهُ أَوْ أَجِيرَهُ أَوْ غُلَامَهُ إلَّا إذَا
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ) أَيْ بَدْلَةٌ اهـ وَالدَّسْتُ لَفْظٌ فَارِسِيٌّ اسْتَعْمَلَهُ فُقَهَاءُ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ فِي كُتُبِهِمْ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَقِيلَ يُتْرَكُ لَهُ دَسْتَانِ) نَقَلَ الْأَتْقَانِيُّ عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى الْمُخْتَارُ أَنْ يُبْقَى لَهُ دَسْتَيْنِ مِنْ الثِّيَابِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَتْرُكُ دَسْتًا مِنْ الثِّيَابِ وَيَبِيعُ الْبَاقِي وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَتْرُكُ دَسْتَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ. اهـ. (قَوْلُهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ) قَالَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ: وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَ) أَيْ الْمَحْجُورُ الدَّيْنَ. اهـ. .
(قَوْلُهُ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يَظْهَرَ لِلْقَاضِي إلَخْ) وَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إفْلَاسِ الْمَحْبُوسِ لَا يُشْتَرَطُ لِسَمَاعِهَا حَضْرَةُ رَبِّ الدَّيْنِ لَكِنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا أَوْ وَكِيلُهُ فَالْقَاضِي يُطْلِقُهُ بِحَضْرَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا يُطْلِقُهُ بِكَفِيلٍ. اهـ. قُنْيَةٌ (قَوْلُهُ بَلْ يُلَازِمُونَهُ إلَخْ) وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ لَا يُمْنَعُ مِنْ السَّفَرِ وَإِنْ قَرُبَ حُلُولُهُ اهـ مُشْتَمِلَةٌ (قَوْلُهُ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَلْزَمَهُ إلَخْ) قَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ رَجُلٌ قُضِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ لِإِنْسَانٍ فَأَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْغَرِيمَ فَقَالَ الْغَرِيمُ لَا أَجْلِسُ مَعَهُ بَلْ أَجْلِسُ مَعَ الْمُدَّعِي فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَى بِالْجُلُوسِ مَعَ الْعَبِيدِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ ضَرَرٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute