كَفَاهُ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ عِيَالِهِ وَأَعْطَاهُ فَحِينَئِذٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَلْزُومِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَفْلَسَهُ الْحَاكِمُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠] وَقَدْ ثَبَتَتْ عُسْرَتُهُ فَوَجَبَ إنْظَارُهُ قُلْنَا دَيْنُهُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ يَجُوزُ مُتَابَعَتُهُ وَالْآيَةُ تُوجِبُ الْإِنْظَارَ إلَى الْمَيْسَرَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مَالٌ وَإِنَّمَا يُلَازِمُهُ لِيَأْخُذَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَادٍ وَرَائِحٌ فَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ.
وَالْمُلَازَمَةُ لَا تُنَافِي النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ وَلِأَنَّ وُقُوفَ الشُّهُودِ عَلَى عَدَمِ الْمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ حَقِيقَةً إذْ الْعَدَمُ لَا يُحَاطُ بِالْعِلْمِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ قَدْ أَخْفَاهُ عَنْ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَزَيَّوْنَ بِزِيِّ الْفُقَرَاءِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ فَيُلَازِمُونَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ مَالُهُ، وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا إشَارَةً عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا؛ لِأَنَّهَا تَشْهَدُ بِالْوُجُودِ وَالْأُخْرَى بِالنَّفْيِ فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ أَوْلَى مِنْ النَّافِيَةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ النَّافِيَةُ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا لَكِنْ قُبِلَتْ اسْتِحْسَانًا بَعْدَ الْحَبْسِ لَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ بِالِانْضِمَامِ إلَى الْحَبْسِ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ فَتُقْبَلُ فِيهِ احْتِيَاطًا.
وَإِنْ قَالُوا إنَّهُ كَثِيرُ الْعِيَالِ ضَيِّقُ الْحَالِ كَانَ شَهَادَةً بِالْإِثْبَاتِ فَتُقْبَلُ بِلَا شُبْهَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ وَإِنْ شَاءَ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَطُوفُ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالسِّكَكِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ لِلْمُدَّعِي، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَلْزَمَ مَدْيُونَهُ الْمُعْسِرَ حَيْثُ أَحَبَّ مِنْ الْمِصْرِ وَإِنْ كَانَ الْمَلْزُومُ لَا مَعِيشَةَ لَهُ إلَّا مِنْ كَدِيدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الذَّهَابِ وَمِنْ أَنْ يَسْعَى فِي مِقْدَارِ قُوتِهِ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَإِذَا اكْتَسَبَ ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ الذَّهَابِ فِي ذَلِكَ وَيَحْبِسَهُ. قَالَ هِشَامٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَأَلْت مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ رَجُلٍ أُخْرِجَ مِنْ الْحَبْسِ عَلَى تَفْلِيسٍ فَرَأَى مُحَمَّدٌ الْمُلَازَمَةَ مَعَ التَّفْلِيسِ وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى فَقَالَ لَعَلَّ عِنْدَهُ شَيْئًا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ فَقَالَ هِشَامٌ: قُلْت لَهُ: فَإِنْ كَانَتْ الْمُلَازَمَةُ تَضُرُّ بِعِيَالِهِ وَهُوَ مِمَّنْ يَكْتَسِبُ فِي سَقْيِ الْمَاءِ فِي طَوْفِهِ قَالَ: آمُرُ صَاحِبَ الْحَقِّ أَنْ يُوَكِّلَ غُلَامًا لَهُ يَكُونُ مَعَهُ وَلَا أَمْنَعُهُ عَنْ طَلَبِ قَدْرِ قُوتِ يَوْمِهِ وَلِعِيَالِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي سُوقِهِ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَوْ اخْتَارَ الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ الْأَضْيَقَ وَالْأَشَقَّ عَلَيْهِ إلَّا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِ دَارِهِ وَحْدَهُ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَسْتَقِيمُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَبَعْدَهُ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ وَكَانَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِرَجُلٍ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يُلَازِمُهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تَلَازُمُهَا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ أَفْلَسَ مُبْتَاعُ عَيْنٍ فَبَائِعُهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ) أَيْ لَوْ اشْتَرَى مَتَاعًا فَأَفْلَسَ وَالْمَتَاعُ قَائِمٌ فِي يَدِهِ فَاَلَّذِي بَاعَهُ الْمَتَاعَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ مُرَادُهُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي الْمَتَاعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَتَاعَ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَكَذَا إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَيَحْبِسَهُ بِالثَّمَنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ وَأَخْذُ مَتَاعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ أَوْ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ أَحَدِ بَدَلَيْ الْعَقْدِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَيَثْبُتُ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِالْإِبَاقِ وَنَحْوِهِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَكَالسَّلَمِ فَإِنَّهُ إذَا انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ يَثْبُتُ لِرَبِّ السَّلَمِ خِيَارُ الْفَسْخِ وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَعْقُودًا بِهِ لَا مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي مَنْعِ الْفَسْخِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ فَسْخِ الْكِتَابَةِ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ بِهِ كَالثَّمَنِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠] فَاسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ بِالْآيَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ قَبْلَهَا وَلَا فَسْخَ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ صَارَ مُؤَجَّلًا إلَى الْمَيْسَرَةِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ لَا مَعِيشَةَ لَهُ إلَّا مِنْ كَدِيدِهِ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ الْكَدُّ الْأَتْعَابُ يُقَالُ كَدَّ يَكُدُّ فِي عَمَلِهِ كَدًّا إذَا اسْتَعْجَلَ وَتَعِبَ. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute